السلط : مبادرات تنهض وتتهاوى أمام سطوة العادة


رم - أ.د. علي النحلة حياصات
في مدينة السلط، حيث الأصالة تحتضن تفاصيل الحياة، خرجت في ثمانينيات القرن الماضي مبادرة مجتمعية باسم "الوثيقية الشعبية"، في محاولة للحد من الممارسات المبالغ فيها في مناسبات الأفراح والأتراح. ورغم تجديد المبادرة عام 2008 عند إعلان السلط عاصمة للثقافة الأردنية، إلا أن انطلاقتها الأكثر مواكبتا للظروف جاءت بعد جائحة كورونا عام 2021، حين أعاد منتدى السلط الثقافي بالتعاون مع مؤسسات مجتمع مدني محلية إحياءها، مستغلين لحظة اجتماعية فريدة فُرضت خلالها البساطة كخيار إجباري.
فالجائحة لم تكن مجرد أزمة صحية، بل كانت تجربة جماعية أعادت المجتمع، مؤقتًا، إلى جوهر القيم التي لطالما تغنّى بها: البساطة، الرحمة، وتقديم الجوهر على المظهر. ففي غياب الولائم الصاخبة، والجاهات المكلفة، والعزاءات الممتدة، اكتشف الناس أنهم قادرون على العيش دون مظاهر فارغة ترهقهم اقتصاديًا ومعنويًا.
لكن ما إن انتهت الجائحة، حتى عادت العادات القديمة لتفرض نفسها من جديد. وعاد الصخب إلى الأعراس، وعادت التكاليف الباهظة للعزاء، وارتدت المجاملات الاجتماعية ثوب "الواجب" من جديد، وكأن شيئًا لم يكن. وكأن دروس كورونا كانت مجرد استراحة قصيرة لا أكثر.
الإشكال، كما يتبين، ليس في المبادرة ذاتها ولا في نوايا مطلقيها، بل في غياب السلطة المرجعية القادرة على تحويل المبادئ إلى ثقافة. فالمجتمعات لا تتغير إلا عبر إحدى ركائز التأثير الكبرى: السلطة السياسية أو الدينية. وأي مشروع لا يحظى بدعمهما يبقى حبيس المؤتمرات والبيانات.
والأدهى، أن بعض من يتصدرون دعم هذه المبادرات من نخب ثقافية واجتماعية، هم أنفسهم أول من يخالفونها في الممارسة. فكيف نطلب من المواطن الالتزام، بينما القدوة تغيب عن التطبيق وتظهر فقط في صور المبادرات والندوات؟
إننا أمام أزمة ثقافية عميقة، كما عبّر عنها "ماسلو" في نظريته للحاجات البشرية: نحن مجتمع يقيس الاعتراف الاجتماعي بالمظاهر، لا بالقيم. كثيرون لا يجدون ذواتهم إلا من خلال التمثيل الاجتماعي، ولو على حساب المبدأ والمنطق.
وهنا تبرز أهمية القدوة الصادقة. فغاندي لم يحرر الهند بخطابات، بل بسلوك مطابق لما نادى به. لم يكن بحاجة الى مظاهر وصور واستعراضات، لأن حياته كانت كافية لتجسيد فكرته. وهذا ما نحتاجه اليوم في السلط، بل في الأردن كله: أفرادًا يبدأون بأنفسهم، يمتنعون عن المجاملات المكلفة، ويكسرون الحلقة الاجتماعية التي تحاصرنا باسم "الواجب".
لقد كشفت كورونا أن التغيير ممكن. أن الفرح يمكن أن يكون إنسانيًا دون بذخ، وأن الحزن يمكن أن يكون صادقًا دون إثقال. لكننا أضعنا الفرصة.
فهل نملك الشجاعة لنبدأ من جديد؟ أم نظل ندفن المبادرات تحت أنقاض العادات التي تستهلكنا؟



عدد المشاهدات : (7110)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :