لماذا أسر الجيش المغربي الرئيس السابق حسني مبارك ؟


رم -
مهدي مبارك عبد الله

بعد وفاة الرئيس المصري السابق المخلوع محمد حسني مبارك يوم 25 فبراير 2020 عن عمر ناهز 91 عام كثر الحديث عن أسرار حياته المهنية التي جذبت العديد من وسائل الإعلام لجعله بطلا لرواياتها لاستقطاب القراء ولو تحدثنا عن السيرة الذاتية للرئيس الراحل مبارك لطالت الكلمات لما تحمل طيات الحديث عنه الكثير من الخبايا والخفايا التي لا يعرفها الكثير عنه وهو الذي عاصر تقريبا جميع الحروب التي خاضتها مصر في العصر الحديث وبالتركيز على فترة عودته إلى مصر من الاتحاد السوفيتي السابق عام 1961 بعد تلقيه التدريب العسكري الطويل كطيار مقاتل تتكشف لنا العديد من الحقائق الغاطسة

العقيد الطيار حسني مبارك حينها تمكن بانضباطه العسكري وتنفيذه للمهام المعقدة والحساسة من فرض نفسه على المؤسسة العسكرية المصرية وأصبح اسمه علامة بارزة لما اكتسبه من خبرة وتعليم مهني واسع في قطاع الطيران الجوي العسكري ليس على مستوى مصر وحدها بل على مستوى الشرق الأوسط وإفريقيا وعبر مسيرته الطويلة والمتميزة تدرج وترقى سريعا في المناصب والرتب العسكرية الى أن أصبح برتبة عقيد طيار ومنذ البدايات رافقته التوصيات والتزكيات الروسية بطرح اسمه رسميا على القيادة السياسية المصرية العليا كأفضل طيار أجنبي تخرج من مدارس القوات الجوية الروسية واليوم وضمن مقالنا هذا سنتعرف على بعض تفاصيل قصة حقيقية وشيقة تروي أسرار مرحلة معينة من حياة الرئيس الراحل مبارك المهنية عندما كان ضابط كبير في القوات الجوية المصرية في الستينات من القرن الماضي

فى صباح 14 أكتوبر 1963 نشبت مواجهة عسكرية بين الجزائر والمغرب بدأت فى شكل مناوشات عسكرية حدودية سرعان ما تطورت لمعارك حربية شاملة عرفت باسم ( حرب الرمال ) قادها الكولونيل المغربي إدريس بن عمر عام 1963 وبقراءة دقيقة لتفاصيل الواقعة نجد ان الروايات اختلفت حولها لكن المتفق عليه أن العلاقات المصرية المغربية شهدت توترا عاليا خاصة بعد إطاحة الضباط الأحرار بالملك فاروق ومساندة الزعيم الجديد لمصر عبدالناصر للجزائر في حربها ضد المغرب بناء على طلب الرئيس الجزائري آنذاك أحمد بن بلة لصدّ هجوم القوات المسلحة المغربية ووقف تقدمها الكاسح نحو الحدود الجزائرية

الرئيس المصري جمال عبد الناصر كان يصنف الأنظمة الملكية العربية بانها أنظمة حكم رجعية ويساند الحركات الثورية ضدها كما يدعم الأنظمة ذات النفس الثوري ولهذا أرسل قوة عسكرية تقدر بنحو ألف جندي وضابط إلى الجزائر بينهم عقيد طيار لم يكن معروفا وقتها إلا أنه أصبح الأشهر في بلاده بعد أقل من عقدين من الزمان عندما أصبح عام 1981 الرئيس المصري الرابع ( محمد حسني مبارك )

بأوامر مباشرة من الرئيس عبد الناصر توجه العقيد مبارك ورفاقه للجزائر وبعد وصوله بيومين ركب وخمس ضباط مصريين آخرين برفقة عضو مجلس قيادة الثورة الجزائرية يدعى شريف بلقاسم على متن طائرة هليكوبتر عسكرية لاستطلاع الحدود الجزائرية المغربية ومنطقة القتال المتوقعة حيث انطلقت الهليكوبتر في مهمتها وقد اختلفت الروايات حول ما حدث لها اذ يقول البعض إن عاصفة رملية قادت الطائرة الى مكان مجهول حيث دخلت الاراضي المغربية شرقا باتجاه الصحراء فيما يقول آخرون إن قائد الطائرة ظل طريقه بسبب عاصفة رملية كثيفة باغتته أثناء الطيران ادت الى اصابة المحرك بعطل فني وفي كلتا الحالتين كانت النتيجة واحدة

على اثر ذلك اضطر قائد المروحية للهبوط في حقول زراعية في منطقة ( واحة محاميد الغزلان ) الواقعة في شرق المغرب وفي دقائق معدودة احاط عدد من المواطنين بالطائرة وانزلوا طاقمها وبعد ان عرفوا انهم جنود مصريين وليسوا مغاربة كبلوهم بالحبال وربطوهم الى جذوع النخيل الى ان حضر ضابط من المخابرات المغربية مع فريق عمل امني واعتقلوهم ثم نقلوهم إلى مراكش واحتجزوهم في سجن دار المقري الشهير وجرى التحقيق معهم للتعرف على مهمتهم وادوارهم

عندما اطلع الملك المغربي الحسن الثاني على حيثيات القضية ثار غضبه وسخطه واعتبر ذلك دليل واضح على تدخل مصر ورئيسها في الصراع الدائر بينه وبين الجزائر حيث استدعى سفير بلاده في القاهرة وامر بطرد المعلمين المصريين من المغرب حتى وصل به الأمر إلى منع الأغاني المصرية في الإذاعة وحظر عرض الأفلام المصرية في دور السينما كما قرر الملك الحسن الثاني فضح مساندة النظام المصري لدولة الجزائر ضد المغرب وطلب عرض الأسرى المصريين على وسائل الإعلام العالمية وهم مقيدو اليدين والأرجل

في الاثناء رفع فلاديمير سميخاستنى مدير جهاز الاستخبارات السوفيتية تقريرا عاجلا للزعيم الروسى نيكيتا خروتشوف طالبا منه التدخل بثقل الاتحاد السوفيتي ونفوذه لدى المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية لمنع ظهور الطيارين المصريين على شاشات الإعلام المغربية والدولية بشكل مهين وقد استجاب خروتشوف على الفور لطلبه وحذر المملكة المغربية بأن الرئيس المصري جمال عبد الناصر سيقرر دخول الحرب بجانب الجزائر ضد المغرب بكل الجيش المصري إذا ما حدث ذلك

تحت الضغط السياسي السوفيتي القوي والجاد والتدخل المباشر للزعيم خروتشوف والتهديد المصري للرئيس جمال عبد الناصر الذى أعلن أنه سيعتبر الموضوع شخصيا بينه وبين الملك الحسن الثاني ما اضطر العاهل المغربي الراحل إلى قبول نصيحة موسكو كما رضخ صديقه الرئيس الأمريكي جون كينيدى للطلب السوفيتي الذى دعا لعدم إهانة الطيارين المصريين الثلاثة أمام الإعلام الدولي حيث اكتفت المغرب بالكشف عن الطيارين المصريين فى الصحف والإعلام المحلى بشكل أقل حدة ودون أي إهانة متعمدة او ضرب

انتهت حادثة أسر الطيارين المصريين الثلاثة بأزمة دبلوماسية حقيقية بين القاهرة والرباط تبادل فيها البلدان استدعاء السفراء وجمدت على إثرها أنشطة السفارات وقامت الحكومة المغربية بترحيل قصرى لأكثر من 350 مدرس وأستاذ جامعي مصري عملوا وقتها بعقود رسمية فى جامعات المغرب المختلفة

بعد التوقيع على اتفاق فورى لوقف اطلاق النار وانتهاء حالة الحرب بين الجرائر والمغرب وتبادل الأسرى بواسطة منظمة الوحدة الإفريقية التي كانت ناشئة حديثا تولدت بوادر مصالحة وتحسن في العلاقات بين الجمهورية المصرية والمملكة المغربية حينما دعا الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الملك الراحل الحسن الثاني لزيارة القاهرة لحضور مؤتمر قمة الدول العربية عام 1964 فاستجاب الملك للدعوة وكان الرئيس عبد الناصر على راس مستقبليه في المطار مصطحبًا معه طفلة صغيرة تحمل باقة من الورد قدمتها للملك المغربي لينحني ويقبلها ويعود لينظر للرئيس المصري قائلًا ( شكرًا سيدي الرئيس على باقة الورد وأنا بدوري هديتي لك أكبر من إكليل ورد إنها هدية من لحم ودم شقيق ) وما كان يعنيه الملك حينها هو أنه سيسلم لعبد الناصر مجموعة الضباط المصريين وبينهم حسني مبارك الذي عاد من الأسر ليترقى في المناصب حتى وصل لكرسي الرئاسة لما يزيد عن ثلاثين عام

اثناء الازمة الشهيرة ساندت الولايات المتحدة الأمريكية المغرب سياسيا وعسكريا ما شكل خطر على الدولة الجزائرية مما دفع القيادة المصرية إلى مساندة الجزائر بألف مقاتل من فرق النخبة المصرية مع كتيبة مدفعية مصرية بكامل تسليحها وتشكيل جوى خاص من أحدث الطائرات السوفيتية الصنع التي حصلت عليها مصر للتو من الاتحاد السوفيتي تضمن 10 طائرات نفاثة مقاتلة من طراز ميج – 19 وعدد آخر من الطائرات العمودية وطائرات النقل الروسية الثقيلة التي حملت قوات النخبة المصرية مع كامل عتادها كما شملت القوة الجوية المصرية الرئيسية خمسة طيارين كانوا من أفضل الطيارين المقاتلين الجويين المصريين على الطرازات السوفيتية المختلفة كان أبرزهم العقيد مبارك

الملاحظ جليا عند متابعة علاقات الاتحاد السوفياتي السابق الحميمية مع جمهورية مصر العربية عام 1963 نجد انها ساهمت كثيرا في توتير وتعكير صفو العلاقات المصرية المغربية فضلا عن صداقة الطيار مبارك المتميزة مع الجنرال الروسى أليكساندر ساخاروفسكى رئيس فرع التجسس والعمليات الخارجية فى الاستخبارات السوفيتية والتي كان لها دور ايضا في اثارة بعض المشاكل للمملكة المغربية آنذاك بحسب وثائق كشف عنها أرشيف الاستخبارات السوفيتية والمثير في الامر اكثر أن مبارك كان يعتقد حتى ذلك الوقت بأنه مسئول العلاقات العامة فى الجيش الروسي فرع الاستخبارات العسكرية الجوية

ما عرضناه في المقال انفا كان شيء من الماضي البعيد بمشاهده المأساوية المؤلمة لكن للأسف الشديد لا تزال الصراعات والخلافات بين البلدين قائمة على اشدها منذ عقود بل ومرشحة لمزيد من التوتر والتصعيد ولا تزال الجزائر تصر على قطع العلاقات الدبلوماسية منذ 24 أغسطس 2021 واستمرار وزيادة دعمها السياسي والعسكري والمالي والاعلامي لجبهة البوليساريو ومنع المغرب من استخدام مجالها الجوي للطائرات المدنية والعسكرية ناهيك عن الخطاب الاعلامي العدائي والتحريضي من الجهتين كما لازالت الجزائر ايضا تطالب رسميا بانفصال واستقلال الصحراء الغربية بينما يعتبرها المغرب جزءا لا يتجزأ من أرضه ويقترح منحها حكما ذاتيا تحت سيادته ورغم توجيه العاهل المغربي الملك محمد السادس عدة دعوات للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لزيارة المغرب من أجل الحوار والتفاهم والمصالحة لكنه ظل دائما يرفض على خلفية النزاع في عدد من الملفات المعقدة لا مجال لذكرها الان

الشعبين الجزائري والمغربي لديهما ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما وذاكرتهما الشعبية الحية تزخر بعلاقات الاخوة والمصاهرة والرحم والثقافة وحكايات العمل والكفاح المشترك ضد الاستعمار بل إن المغرب شكل دائما سندا قويا للجزائر في ثورتها كما تؤكد الوقائع والوثائق التاريخية عندما كانت المدن الشرقية المغربية ومدينة وجدة تحديدا حاضنة وملاذا لقادة حبهة التحرير ومركزا لانطلاق التعبئة والتجنيد والحشد ودعم الثورة الجزائرية بمختلف الصور والأشكال وفي اصعب الظروف والاوقات

يذكر ان الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز استطاع إنهاء القطيعة بين المغرب والجزائر في مكة المكرمة عام 1989 بعدما استمرت قرابة 32 عام حيث تصافح آنذاك أمام باب الكعبة المشرفة الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد ثم جمعهما الملك فهد مرة اخرى في خيمة نصبت على الحدود بين البلدين وانتهى اللقاء بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين وعودتها إلى طبيعتها

ختاما اننا وعلى لسان كل عربي شريف وصادق وغيور على الأمة جمعاء ندعوا الاشقاء في البلدين وخاصة الجزائر الى المسارعة في المصالحة ووأد الفتنة وحل الخلافات بين الشعبين الذين جمعهما ذات يوم الحلم والامل والمعاناة والجراح حتى صارا جسدا واحدا يشهد لهما التاريخ بالتعاضد الذي كان السبب الأول في طرد المستعمر البغيض من أرضيهما وان يجلسا إلى طاولة العقيدة والدين والعقل ويصلحا ما بينهما بود واخوة مع ضرورة تشكيل كل من الشعبين المغربي والجزائري لجان وطنية خاصة للضغط على حكومتي البلدين من أجل السعي للمصالحة وتكثيف الجهود لرأب الصدع وكبح جماح الشر واستثمار وسائل الحكمة في تنمية سبل الوفاق والائتلاف لما فيه خير البلدين والشعبين الشقيقين والله من وراء القصد

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]









عدد المشاهدات : (5302)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :