رم - بقلم: أ. د. عبد المنعم همت/ السّودان
في كنف الحرف تولد المعجزة، وفي تجليات الفكر العميق تنهض أرواح تعرف طريقها نحو الخلود. ومن بين تلك الأرواح، تُطلّ الدكتورة سناء الشعلان، لا كامرأةٍ عابرة في مجاز الأدب، بل ككائنٍ سرديٍّ متجذّر في معنى الوجود، تكتب وكأنها تنقّب في الذاكرة الجمعية عن أسرارنا الأولى، وتصوغ من التجربة الإنسانية قصيدة هوية. هي ليست فقط ابنةَ الجامعة الأردنية، بل هي لغتها السرّية، لغتها المضمَرة، التي تجيد اختراق المعاجم والتصنيفات، وتعيد تشكيل الأكاديمية لا كنسقٍ معرفيٍّ جامد، بل كنبضٍ يتوالد من رحم الحياة، وكأنها تطبّق في كل لحظة مقولة درويش: "كُن حارس الظل... لا تتبع الضوء، فالضوءُ مرشدُ موتٍ جميل." إنها لا تتبع الضوء كمريدٍ مسحور، بل تصنع ضوءها من مفردات تُشبه الصلوات، ومن جمل تُشبه الوحي العاشق، ومن حبكة تُعيد ترتيب علاقتنا بالعالم واللغة والذات. عندما تكتب، فإنها لا تكتب فحسب، بل تعيد ترتيب خرائط الإدراك، وترتقي بالحبر إلى ما بعد المدلول، تلامس طبقات لم تُكتب بعد، وتجعلنا ندرك أن الكلمة ليست وسيلةً للتواصل فحسب، بل وسيلةٌ للفهم الأعمق، للشفاء، وللخلاص. ألم يقل نزار قباني: "أريدكِ أنثايَ حتى الجنونْ وحتى صهيلِ الخيولِ التي تستحمُّ بصوتِ المطرْ"؟ كذا هي سناء؛ تستحم كتابتها بصوت المطر، ويصهل نصّها كما الخيول العاشقة، تتقدّم نحو المدى، وتغرس حوافرها في جسد اللغة، كي توقظها من سباتها، وتدفعها للرقص مع المعنى. هي لا تكتب الرواية كما يكتبها محترفو الصنعة الباردة، بل كما تُشعل القلوبُ النارَ في غابة القهر، وكما يكتب الحالمون الذين لم يفقدوا يقينهم رغم العواصف. في زمنٍ أُغلقت فيه أبواب الحلم، تفتح هي نافذةً، وتُعلّمنا أن الضوء يمكن أن يخرج من كلمات لا تُساوم. وحين تكتب للأطفال، لا تُخاطبهم من عَلٍ، بل تنحني لتكون معهم على ذات الأرض، على ذات العشب، حيث تتعلّم منهم براءة المعنى، لتصوغ منه أدبًا يُربّي الروح قبل أن يُسلّيها، ويُهذّب الذوق قبل أن يُدهشه. منجزها لا يُقاس بعدد الصفحات، بل بعدد الأرواح التي هزّها، وعدد الأسئلة التي أطلقتها في عقول قرّائها، فتتحوّل النصوص إلى مرايا، والقرّاء إلى كائنات أكثر صمتًا، وأكثر إنصاتًا لما بداخلهم. إنّ تجربتها تشبه ما قاله درويش ذات عزلة مشرقة: "أحنُّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي..." وهكذا نحن؛ نَحنّ إلى أدبٍ يُشبه خبز الأم، لا يتكلف ولا يتزيّن، بل يُشبع الجائع فينا إلى الحقيقة والجمال. وتمنحنا سناء خبزها على هيئة قصة تُغنّي، أو مسرحية تُقاوم، أو رواية تُنقّب في طبقات الهوية كما يُنقّب المنجم في أحشاء الأرض. أعمالها جوائز في ذاتها، حتى وإن لم تُكرَّم، لكنها كُرّمت، فحملت عشرات الأوسمة من قلوب أقرّت بعلوّ كعبها. هي لا تركض خلف الأضواء، بل تصنع منها قنديلًا، يمشي على خطى جبران، ومي، وغادة، ولكنْ بخطّها الذي لا يُشبه إلا ظلها. هي، بكل صدق، مرآة لجمال العربية حين تتخفّف من ثقل الاستعراض، وتتحوّل إلى كائن يتنفّس بعين امرأة تعرف كيف تنظر إلى العالم من علٍ، دون أن تنفصل عن ترابه. حين تمرّ سناء الشعلان في الجامعة، لا تمرّ كأستاذةٍ تؤدّي محاضرة، بل كقصيدة تمشي على قدمين، ككلمةٍ كانت تبحث عن مكان