الصحراء والجنوب .. تاريخ ومعضلة إدراك


رم -

لم تكن يوماً صحراء الأردن وجنوبه صحراء عادية ، أو كما يراها البعض صحراء جرداء قاحلة ومحروقة الوجه ، بل فيها من الأسرار والتاريخ ما يدك قلب الخائف والمنهزم والحاسد .

ولم تكن يوماً حياة الصحراء والبداوة في الأردن نقيضاً للحضارة أو نقطة تعريف للمتأخرين عن الركب أو دلالة على غياب المدن والمنازل في قلب الصحراء ، بل تمثل حياة الصحراء نمطاً من أنماط العيش وبالتالي هي ليست طبقة اجتماعية بل أسلوب حياة ، فالله جل في علاه خلق السهل والجبل والصحراء للبشر لتحقيق التوازن ، وتعبيراً عن التنوع لا عن الطبقية ، ولكن البعض من المُحْدِثين ومرتاحي العقول يرون في أذهانهم أن الذي في البندر ( العاصمة ) هو الأغنى أو الأذكى أو الأعلم ومن ثم يدخل في المضمار الحضاري من هو من باقي المدن على الدرجة الثانية بحد سواء الفلاح والبدوي ، ويحتارون أحياناً في ترتيب البدوي أم الفلاح ثانياً ، ويجهل هؤلاء أن في البندر ثلاث طبقات وفي الأرياف حيث الفلاحين كذلك الأمر وفي البوادي والصحراء كذلك الأمر ، وكل حسب بيئته ( ثري على طريقته الخاصة ) ، فالثراء في المدن الصحراوية والبوادي ليس بأهمية بناء مصانع ، ولا باستيراد وكالة مطاعم أجنبية ، بل بشراء مئات الدونمات وتوريثها وعدم التفريط فيها ( مهما ضاقت سبل العيش ) ، كجزء لا يتجزأ من مفهوم الشرف ، وأما رؤوس المال فهي لا يعبر عنها بالمجمعات التجارية ، والشقق المتكدسة بالبشر ، بل حتى تأخذني الطرفة لما يسمى هنا في العاصمة بمسمى ( فيلا ) لدى بعض السماسرة وتجار العقارات ، وهي التي لا تتعدى بيتاً مستقلاً اعتيادياً تجده في الجنوب أو حتى في الشمال ( لدى الطبقة المتوسطة للإقليمين ) ، فالناس هناك يعيشون في منازلهم وحول أشجارهم وطبيعتهم ، وفي أكناف الطبيعة ، حيث الهواء النقي فجراً الذي لم تكدره أنفاس الخلائق بعد ، وحيث صدق المعاملة وحسن المعشر ، وطيب الجوار ، ولباقة التصرف ، ورد المعروف ، والكل يعمل في أرضه ، وهي ليست مدناً فاضلة بالضرورة لكنها تفوز بالأعلى نبلاً وصدقاً وانسجاماً ، لأنك كلما تعمقت في العواصم وجدت الحياة المادية والطابع المادي يتجلى ، أما في المدن الأخرى فالفلاح شمالاً يصدر ويملأ الموائد بكل ما لذ وطاب ، والبدوي جنوباً يمتلك العديد من مشاريع متماشية مع بيئته ، كمشاريع سياحية في نطاق حضارة الأنباط ، وتجارة الأعشاب الطبية النادرة ( على سبيل المثال : العرعر النبطي والموجود حصراً في الطفيلة وبعض جبال البتراء) ، فهو كثمرة يستخدم كمادة معقمة وتارة معطرة تستخدم مع الشاي ، واستخدم الأجداد الأنباط خشب العرعر في صنع المنشآت ، حيث ظهر في استخدام أسقف المباني ، بل تعدت عبقرية الأنباط لاستخدامه كأحد الأدوات في امتصاص الذبذبات والارتدادات الناجمة عن الزلازل ( قصر البنت ) ، واستخدم كألواح تفصل بين الطبقات ، واستخدم كألواح مرة ثانية للتدوين ، بل بلغت استخداماته لبناء السفن في أيلة ، ومن ثم تم اعتماده وادخاله في العصور اليونانية والبيزنطية في صنع المعدات العسكرية ومازال حتى اليوم نباتاً مهماً ( ثمرة وجذعاً ) ، ويأتي السياح ( السياحة العلاجية ) من دول مجاورة تحديداً إلى الطفيلة للبحث عنه وهذا جزء بسيط من حضارة ممتدة وما زالت حاضرة.

وليس من العيب أبداً مهنة الرعي التي ما زال يمتهنها الكثيرون في الصحراء والبوادي ، فهذه طبيعة الأرض بالإضافة إلى كونها مهنة الأنبياء ( رعي الإبل والأنعام ) ودورهم في تزويد البندر بالكالسيوم اللازم ( عبر منتجات الجميد والألبان والأجبان بجميع صنوفها ).

وليس بالبيئة وحسب ، بل صدّرت البادية والصحراء عموماً منذ تاريخها البعيد مروراً بصورتها الحديثة ، الكثير من الشخصيات والحضارات ، فالصحراء الأردنية الجنوبية ذات ثلاثية ملكية تاريخية صلبة ( المملكة الأدومية حيث الطفيلة ) ، والمملكة المؤابية ، ومملكة الأنباط ، فهي منذ الأزل نابضة بالتاريخ والحضارة ، ولنا في معجزة العرب الوحيدة الحاضرة ( الأنباط ) ، محطة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط في العالم القديم وتحديداً في بلاد الشام والشاهد عليها المدينة الوردية وما حولها ، علماً انها امتدت لما هو خارج حدود الجنوب نحو الشمال.

وبعد دخول هذه الممالك في العهد الروماني برز دورهم الكبير حتى دخلوا الإسلام ، ففي الكرك معركة مؤتة شاهداً على أهل الأرض ، عروبة وديناً وانتماء ، وفيها مقامات أبطال المعركة كالصحابي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وفي الطفيلة كذلك الأمر مقامات للصحابة في محطات اسلامية متعددة كمقام الصحابي الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه وغيره ، ثم تمر العقود من عمر الزمن بمحطات كثيرة يصعب اختزالها ، ولكن لا يمكننا أن ننسى أهمية أذرح ( في معان ) في التاريخ الإسلامي ، حيث كانت شاهدة على التحكيم بين مبعوثي الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاوية بن أبي سفيان بعد معركة صفين.

ومن جنوب الأردن ومجدداً في معان ، تحديداً في الحُميمة ( معقل العباسيين ) وصرخة الثورة ، ونقطة انطلاقهم ومركز الدعوة لينتزعوا الخلافة ويثوروا على بني أمية ، وليشكلوا - أي العباسيين - العصر الذهبي العربي الإسلامي الخالد في كتب التاريخ ، والوعي الثقافي العالمي ، فلولا الحُميمة المعانية الأردنية لما وصلوا بغداد وأقاموا منها امبراطوريتهم والتي بفضل هذه الثورة أصبحت مركزاً للاشعاع الحضاري الذي أدهش العالم لأكثر من خمسة قرون.

وفي العهد الأيوبي والمملوكي ، كان سكر مونتريال الشوبك كأول علامة تجارية أردنية تجوب بلاد الشام والشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا ، وفي ذات العهد المملوكي ، قام تاجر شوبكي واحد بتمويل جيش الملك الظاهر برقوق بمئة ألف دينار ( مذكور في كتاب : تاريخ ابن الفرات ) ، فقط تاجر واحد قام بتجهيز جيش السلطنة ، وتحمل نفقاته ، ومن الشوبك أيضاً الطبيب توما الشوبكي طبيب السلاطين .

وكانت الكرك ( السنجق : الكرك والطفيلة ومعان ) بمثابة البنك المركزي للسلاطين ، والتي احتوت طبقة برجوزاية من التجار وأخرى ارستقراطية من شيوخ المشايخ ، لهم بصمة في أمور السلطنة على البعد السياسي والعسكري والمالي ، واستمروا بذلك حتى مجيء العثمانيين ونهايتهم.

ومن جنوب الأردن الشيخ راشد حدادين الأردني الكركي المسيحي ، الذي دفع مبلغاً من المال واشترى خربة رام الله من مدينة البيرة وأسس بدوره مدينة رام الله ، وعلى دوار المنارة في رام الله خمسة أسود ترمز لأولاد راشد حدادين الخمسة ، حيث أقام هذا الكركي الأردني المهاجر إلى فلسطين هذه الأسود رمزاً لأبنائه.

أما من معان فحكمت عشيرة المعاني مدينة قلقيلية في العهد العثماني وطورتها وحفظت الأمان فيها حيث كان الباشا زيد باشا المعاني حاكماً لبلدة صوفين والجد الأكبر لعشيرة زيد بقلقيلية.

وفي العصر الحديث ، أخرجت هذه الصحراء إلى حيز الوعي والحرية والثقافة والعلم الكثير من الشخصيات ، فمنها تفجرت ثورة صدحت بصوت كل العرب ، ثورة أجدادنا الطاهرة الزكية ( الثورة العربية الكبرى ) ، والتي انطلقت بطلقة من الجفر ، بقيادة رأس الحربة شيخ مشايخ الحويطات : الشيخ عودة أبو تايه ، وشيخ مشايخ الطفيلة ( جد أمي الأكبر ) : الشيخ ذياب باشا العوران وأولاده ، وشيخ مشايخ الكرك : رفيفان باشا المجالي وغيرهم من شيوخ مشايخ الأردن تحت راية الهاشميين.

وبعدها نهاية العهد العثماني ، وبدايات عصر النهضة العربية ، والذي لم يخلو من بصمات وعقول مضيئة جاءت من جنوب الأردن ، فمن الطفيلة : حيث الروائي والأديب وأحد مؤسسي الإذاعة الأردنية الشاعر تيسير السبول والذي يعد أحد أهم رواد الشعر الحر في الأردن وصاحب البرنامج الإذاعي ( مع الجيل الجديد ) حتى وفاته ، وصاحب ديوان ( أحزان صحراوية ).

ومن الطفيلة أيضاً الأديب والمؤلف المسرحي محمد المحسين والذي كان بطلاً في الكفاح الوطني والقومي ، والذي أسس مطبعة وجريدة عربية واسمها ( الصراط ) ، وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي ديترويت أسس جريدة ( الدفاع العربي ) وفي عام 1920م انتخب في أمريكا بمؤتمر المهاجرين العرب رئيساً لوفد يذهب إلى فرساي للمشاركة في مؤتمر الصلح ، وعام 1924م عاد إلى الأردن وعمل في سلك المعارف والإدارة المحلية ثم رئيس ديوان أميري ثم متصرف لواء معان ..

وهذا ليس كل شيء قما زال في جعبة الصحراء الكثير من تاريخ وشخصيات ومدن ومعارك وصولات وجولات ، وكل شبر في الأردن بشكل عام متخم بالتاريخ ، والتي نتمنى تسليط الضوء عليها رسمياً ومواجهة وتجريم كل من يتهكم عليها وعلى تاريخ الأردن والأردنيين ، وذلك البون الشاسع في الإدراك من قبل البعض ، تجد من خلاله صورة صحراء فارغة ، حيث يحاول أن يفرغ هذه الأرض من حقيقة حضارتها وسكانها أو ينظر نظرة استعلاء لحضارة الصحراء حيث الذكاء والفراسة والبلاغة والشجاعة ، فهذا تاريخ وطن بأكمله ، وهوية يجب تكريسها لا طمسها ، ودعمها لا تهميشها ، وتعزيزها لا تقليصها ..

فداء المرايات



عدد المشاهدات : (2118)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :