رم - المضحك المبكي أننا في مجتمعاتنا بتنا نفرح بالعطل أكثر مما نفرح بالإنجاز.
لا لأننا مجتهدون ونحتاج إلى استراحة، بل لأننا بكل صراحة لا نعيش ثقافة الإنتاج أصلاً.
نفرح بالعطلة كما يفرح السجين بإذن خروج، لا كما يفرح العامل المجتهد بيوم راحة بعد أسبوع مُنهك. وهذه ليست مبالغة، بل توصيف دقيق لواقعنا الجماعي.
الغريب أن الحكومات نفسها أصبحت طرفًا فاعلًا في هذه الحالة، فتوزّع العطل بسخاء، وتتوسع في تمديد الإجازات، ليس من باب الترف الإداري أو الضرورات المؤسسية، بل كوسيلة لإرضاء الناس وتهدئتهم، وإبعادهم عن التقييم الحقيقي لأداء الدولة وأجهزتها.
فالعطلة هنا تتحول إلى “مُسكّن اجتماعي” أكثر منها قرارًا وظيفيًا، وتُستخدم كأداة إلهاء، بدلًا من أن تكون فرصةً للتنظيم والتطوير.
*إنتاجنا إلى أين؟؟؟*
في الدول المتقدمة، العطلة محسوبة بالدقيقة.
في اليابان التي تعادل كثافتها السكانية دولًا بأكملها لا تزيد العطلات الرسمية عن 16 يومًا سنويًا، ومع ذلك تجدهم يعانون من فائض العمل.
في ألمانيا، رغم أنها من الدول الصناعية الكبرى، لا تتجاوز الإجازات 10 إلى 13 يومًا حسب الولاية، ومعظم الموظفين يستفيدون منها في التدريب والتطوير الشخصي أو التطوع المجتمعي.
في المقابل، لدى كثير من الدول العربية ما يزيد على 30 إلى 35 يوم عطلة سنويًا، هذا دون احتساب الإضرابات، الأعطال الطارئة، والعطل “العرفية” التي تُمنح استجابة لأحداث غير متوقعة، أو لتزامن مباراة كرة قدم!
ليست المشكلة في العطلة… بل في عقلية التعامل معها…
الراحة حق. لكن حين تكون العطلة في بلد لا يعمل أصلًا بانتظام، تصبح الراحة خمولًا… والتأجيل إدمانًا… والفوضى عادة.
العطلة في هذه الحالة لا تأتي بعد إنجاز، بل بدلًا منه.
في مجتمعات العمل، العطلة تجديد طاقة.
في مجتمعاتنا، العطلة إطفاء مؤقت لضمير مسؤول، أو هروب جماعي من مسؤولية فردية.
وأسوأ ما في الأمر أن هذا السلوك أصبح عامًا: المسؤول يغلق باب مؤسسته طوال الإجازة، والموظف يتعامل مع آخر يوم دوام وكأنه نهاية السنة، والناس تتوقف عن التخطيط، وكأن البلد قد دخل في غيبوبة رسمية!
*نصيحة إلى الحكومة…*
لا تُطفئوا الغضب بالعطل، ولا تظنوا أن إسكات الناس مؤقتًا يغني عن مواجهة الواقع.
مَن يطالب بالعدل لا يسكت بعطلة، ومَن يعاني من الفقر لن تُغنيه خمسة أيام في البيت بلا عمل.
الدولة الجادة هي التي تُقنن العطل، وتربطها بإنتاجية حقيقية، وتشجّع الناس على الاستفادة منها في التعليم والتدريب والانخراط المجتمعي، لا في النوم والمقاهي.
بل أكثر من ذلك، يمكن للدولة أن تجعل من بعض العطل مساحة لتفعيل برامج وطنيّة:
أيام تطوعية.
برامج دعم تعليمي.
حملات مجتمعية في القرى والأحياء.
هكذا فقط تصبح العطلة أداة بناء… لا غيابًا جماعيًا عن المسؤولية.
*نصيحة إلى الشعب…*
لا تفرح بالعطلة كأنها هروب من السجن، بل كاستراحة المحارب الذي سيعود لميادين العمل، أقوى وأوضح.
توقف عن النظر للدوام على أنه عقوبة، وابدأ برؤية الإنتاج على أنه كرامة.
العطلة التي لا تمنحك فائدة، هي وقت ضائع من عمرك، لا فرق بينها وبين نوم بلا حلم.
اقرأ، تطوّع، راجع نفسك، خطط، أو حتى ارتح بوعي… لكن لا تهدر وقتك وكأنه لا قيمة له.
العمر لا يُقاس بعدد السنوات… بل بعدد الأيام التي صنعت فيها فارقًا.
في النهاية، الأمم التي تصنع التاريخ لا تسأل عن العطلة، بل عن الأثر.
والشعوب التي تنتظر العطلة لتفرح… لن تنتظرها طويلاً كي تنهار.
الإنتاج ليس خيارًا، بل مصير.
فإما أن ننهض… أو نبقى نحتفل بالعطل، فيما يُكتب مستقبلنا في أماكن أخرى، بأيدي شعوبٍ لا تنام كثيرًا.
د. طـارق سـامي خـوري
29/5/2025