رم - أ.د. علي النحلة حياصات
في زمن الطفولة، كانت عيوننا ترى الوطن من خلال أغاني سميرة توفيق، تلك الفنانة التي لم تكن فقط صوتًا طربيًا، بل رمزًا وطنيًا يحرك في القلب إحساسًا عميقًا بالانتماء. "فدوى لعيونك يا أردن" لم تكن مجرد كلمات، بل كانت وعدًا نردده كل صباح، ونحمله معنا إلى مقاعد الدراسة وأماكن العمل ومواسم التعب. يومها، لم نكن نهاب الموت حقًا، ولم نكن ننتظر مقابلاً لنحب الوطن أو نبني فيه.
في سبعينيات وثمانيينات القرن الماضي، لم يكن الانتماء بحاجة إلى تدريب أو توجيه. كان الأردني يصدّر صورته بالخارج كما الداخل: صورة العامل الجاد، المثقف، الشريف، الذي إذا وعد وفى، وإذا عمل أخلص ، كانت كفاءاتنا مطلوبة ومحبوبة، والسبب بسيط: كنا نحب أوطاننا بصدق، ونضع الأردن في القلب قبل الجيب.
اليوم، ونحن نحتفل بعيد الاستقلال، يفرض الواقع أسئلته القاسية: هل ما زلنا نمشي على الجمر؟ هل ما زالت كلمات سميرة توفيق تجد من يُنشدها بحرارة؟ أم أن أغاني الوطن أصبحت مجرد خلفية موسيقية في حفلات بروتوكولية تقسم الوطن على اسس الهويات الفرعية ؟
الفرق بين الأمس واليوم ليس في حب الوطن فحسب، بل في طبيعة العلاقة معه. كان الأردني يربط مستقبله بتراب وطنه، يرى فيه كرامته وهويته، ويقاتل ليبنيه لا ليهاجر منه. أما الآن، فالشاب الأردني يبحث عن فرصة نجاة أكثر مما يبحث عن فرصة بناء. يفتش في عيون المسؤولين عن إجابة، وغالبًا لا يجد سوى الصمت.
هذا التراجع ليس قدَرًا محتومًا، بل نتيجة تراكمات اجتماعية واقتصادية وثقافية، لكنه أيضًا دعوة للتأمل في الطريق الذي سرنا فيه. فهل نعيد تعريف الانتماء ليصبح حقيقيًا لا خطابًا؟ وهل نملك الشجاعة للاعتراف أن "الوطن" لم يعد يعني للجميع ما كان يعنيه قبل اربعة عقود؟
عيد الاستقلال ليس لحظة فخر عابرة، بل مناسبة وطنية تستدعي مراجعة جذرية: كيف نعيد للانتماء قيمته؟ كيف نزرع حب الوطن في الجيل الجديد، لا بالخطب، بل بالعدالة، بالفرص، بالثقة؟
"على الجمر تمشى النشامى والوفا للحر سنة..."، هكذا كانت تهتف سميرة بصوت يشبه زغاريد الأرض حين تحتفل بأبنائها. لكن، هل ما زلنا أولئك النشامى الذين لا تلسعهم نار التضحية؟ أم أن الجمر خمد، وانطفأ معه لظى القلب، وصار الوفاء مجرد ذكرى نغنيها دون أن ندرك المعنى الحقيقي لها؟
قد تكون الأغاني تغيّرت، وقد لا تثير غمزات عيون سميرة اليوم ما كانت تثيره سابقًا، لكن الوطن لا يزال ينتظر أبناءه. فلنُعد له ما يستحق: حبًا لا مشروطًا، وجهدًا لا منّ فيه، وانتماءً لا يُقايَض.
فدوى لعيونك يا أردن... إن كنا صادقين في قولها حقًا.