رم - تغزِل خيوط التطريز، نقوشاً ورسومات، على صفحات من دفتر بات يَستثمر اليوم في ذاكرة الجدات، وهوياتهن، وبيئاتهن، ليبقى الثوب التراثي التقليدي، ذهباً لا يصدأ مع الأيام، بل يزداد بريقاً هادئاً وألقاً، رغم مزاحمة السرعة والعصرية.
وبالخيط والإبرة، خرج الثوب التقليدي، من صندوق التراث نحو بورصة البائع والمستهلك، التي شغلت نحو 30 ألف يد، في شقي الصناعة والتجارة في هذا المجال.
واكتسب الثوب التراثي مكانته شاهداً على الاستقلال، وحتى اليوم، برسوماته وحدتها وألوانها ومعانيها، ومناسبة ارتدائها، وكسلعة ذات قيمة مضافة يتفرد بها الأردن على قبة المنافسة في هذا المجال، وكفرصة اقتصادية محلية وتصديرية، تجارية وسياحية، لا تخلو خيوطها من الحنين.
ورغم ثباته منذ زمن الجدات، وقصص الأوائل، يواجه الثوب اليوم تحديات عديدة، بمرونة عالية، أثرت على رمزية اليدوية والحرفية وتجربة التسوق الفعلية من سوق عصفور في وسط البلد بعمان، وحتى عموم مدن ومحافظات المملكة.
وارتبطت تجارة الأثواب التراثية والمطرزات الشرقية، بالتراث، بحسب عضو مجلس نقابة تجار الألبسة والأقمشة والأحذية، محمد الحلو، الذي أشار إلى أنه لكل منطقة في المملكة ثوب خاص يميزها، فكانت حياكة الأثواب تتم بالطرق اليدوية، ثم تطورت مع دخول الآلات الحديثة للتطريز، التي تطورت تدريجياً حتى وصلت لتكون محاكة آلياً بالكامل، بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وتتوزع المحال التجارية المتخصصة بالمطرزات، في مختلف المحافظات، على شكل أسواق، لكنها تتركز في العاصمة عمان، تحديداً في منطقة وسط البلد، التي تضم سوقاً رئيسية للأثواب التراثية والتقليدية، المعروف بسوق عصفور وما حوله، والذي يبيع فيه التجار المطرزات اليدوية والآلية بمختلف أشكالها، بحسب ما أضاف الحلو لوكالة الأنباء الأردنية (بترا).
"الخامات المستخدمة في الثوب "الفلاحي" هي أقمشة وخيوط خاصة، إذ يصل عدد أنواع القماش المستخدم إلى نحو 20 نوعاً من مختلف المناشئ، كالصين وكوريا ومصر، والخيوط كذلك" وفق الحلو، الذي لفت إلى أن الطلب على الأثواب التقليدية، يزداد في الغالب خلال موسم الصيف، في المناسبات الاجتماعية والوطنية، إذ تعد الأثواب زياً رسمياً يعبر عن التراث الأردني وهوية كل محافظة ومدينة فيها.
ويعد حجم القطاع اقتصادياً، ممتداً بين فئتين، هما الصناع والتجار؛ فيما يبين الحلو أن عدد العمالة في الجانب الصناعي منها يتجاوز 20 ألف عامل، ما بين فني وعامل وصاحب مصنع وغيرها، ويصل عدد العاملين في الشق التجاري إلى نحو 10 آلاف شخص، ما بين موظفين وعمال تحميل وتنزيل ونقل وتاجر.
ويشير إلى أن عدد المحال التجارية المتخصصة ببيع الأثواب والمطرزات التراثية، تزيد على الألف محل، موزعة في مختلف الأسواق في عموم محافظات المملكة، مشيراً لوجود أفرع للعديد من المحال التجارية خارج المملكة، في دول أوروبا، و أميركا، ودول عربية كالإمارات والبحرين وغيرها، منا يجعل الثوب منتشراً بين الجاليات العربية والأردنية.
أما عن آلية تحديد سعر الثوب؛ بين الحلو أن السعر يحدد وفق كمية التطريز، وتعدد الألوان ونوع وجودة القماش المستخدم، فكلما ازدادت الألوان وكمية التطريز، يرتفع سعر الثوب، بالإضافة لوجود أحجار "الستراس" من عدمها، ونوعية التطريز وجودته.
"الزبائن الرئيسيين هم المستهلكين المحليين من مختلف الطبقات الاقتصادية، فيما يتراوح سعر الثوب ما بين 10-130 ديناراً، وقد يزداد على ذلك" بحسب الحلو، لافتاً إلى أن المغتربين يقبلون خلال عطلتهم الصيفية في الأردن على شراء الأثواب التقليدية، بهدف ترسيخ هويتهم الوطنية في اغترابهم، فيما يبدي السياح العرب اهتماما كذلك بالثوب التراثي الأردني، باعتباره هدية ثمينة كأهم صناعة فرعية يشتهر بها الأردن في قطاع الألبسة.
أما السياح الأجانب؛ بيّن أنهم يهتمون بشراء الأثواب التقليدية، خاصة في ظل وجود العديد من الأصناف التي يتم تصنيعها خصيصاً لهم.
ويرى، أن اللباس التراثي عموماً، أمر جغرافي، فنزول المشتري للسوق في مدينة محددة، لشراء ملابس تراثية، يشكل معادلة ولوحة مميزة جداً في تجربته، لكن الشراء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حرم السوق التراثي من العديد من الفرص، كون العديد من التجار التقليديين لا يتقنون فنون التسويق عبر هذه الوسائل.
ويؤكد وجود تحديات تواجه هذا القطاع، منها قلة الأيدي العاملة الوطنية المدربة، وضعف القدرة الشرائية التي أثرت على الأسواق وعرض البضائع، وضعف الدعم الرسمي بهذا القطاع، كمنتج وطني يمكن أن يعود بعائد كبير على الخزينة، خاصة في ظل تميز الأردن بهذه الصناعة.
عضو مجلس إدارة غرفة تجارة الأردن، أسعد القواسمي، قال لــ"بترا"، إن تجار الأثواب التقليدية قديمة جداً، في عموم بلاد الشام، خاصة فلسطين والأردن، طرأ عليها تحديثات جديدة تتعلق بأشكال التطريز وطرقه، وتتجمع غالبيتها في منطقة وسط البلد، بمشاغل وتجار، مع وجود بعض الأفرع في المولات والمحافظات.
ويقدّر القواسمي عدد محلات بيع الأثواب التقليدية في العاصمة عمان بنحو 250 محلاً، بالإضافة لنحو 100 محل في مختلف المحافظات.
ومنذ عام 2005، راجت تجارة الأثواب التقليدية التراثية، في شوارع وسط البلد، كشارع طلال، وشارع الملك فيصل وغيرها، وأصبحت المنطقة سوقاً متكاملة ومتخصصة بعد عشرين سنة، وفق القواسمي، الذي لفت إلى أن الثوب لم يعد رمزية تراثية فحسب، بل فخر تتزين به الإناث في مختلف المناسبات الاجتماعية والوطنية، خاصة بعد ما طرأ عليه من تحديثات تواكب العصر ومناسباته.
وأضاف، أن "الثوب التراثي اليوم، أصبح يصدّر للخارج كفكرة للتصنيع في مختلف البلدان الشقيقة والصديقة"، كما أن "بعض منصات التجارة الإلكترونية، حاولت تقليد الثوب الأصلي، لكنه ليس بذات النقوش والتطريزات، مما يجعلها ضعيفة في المنافسة بهذا المجال".
ويعتبر القواسمي، أن الثوب التقليدي، أصبح بارزاً في المناسبات الاجتماعية والوطنية، كونه يمثل مفاهيم ورموزاً خاصة بالهوية لكل مدينة من المدن في الأردن وفلسطين على حد سواء، مثله مثل الشماغ والثوب العربي للرجال وغيرها.
وتركز الباحثة المتخصصة في التراث الأردني، ومؤسسة جمعية بيت التراث الأردني، الدكتورة فاطمة النسور، وفق حديثها لبترا؛ إنها ركزت على إعادة إحياء الملابس التراثية للمرأة، كالـ"خَلقة" السلطية الفريدة بالتعاون مع مؤسسات محلية ودولية.
وتحرص الدكتورة النسور، على اقتناء أثواب وملابس تقليدية تراثية قديمة، بهدف الحفاظ على النقوش التطريزية القديمة المستوحاة من البيئة المحيطة لكل منطقة، والتي ارتدينها الجدات والأمهات، من مختلف المحافظات.
"العلاقة بين التصميم الحديث والهوية التراثية الأردنية، لا تنسلخان عن بعضهما، فهما متماثلتان من حيث الألوان والنقوش والخطوط التطريزية، والهوية الفرعية لكل منطقة، إلا أن ما اختلف هو نوع الأقمشة المستخدمة بما يتناسب مع المرأة العصرية" برأي الدكتورة النسور.
كما تؤكد حرصها على توفر عناصر أساسية في الأثواب التقليدية، منها الخطوط التطريزية والرسومات، والجمع بين التصميم الأصلي للثوب ما ما يناسبه من تطورات تلائم العصر.
وتضيف "لا يوجد مشاكل تسويقية وترويجية تذكر، إذ أصبحت الفتيات اليوم، يملن إلى ملابس الجدات والأمهات التراثية، لكن هناك مشكلة في ارتفاع أسعار الأثواب التقليدية اليدوية التي لا تجعلها في متناول الجميع، خاصة في ظل مستوى الدخول في الوقت الحالي".
وبينت، أن الجمعية تتعامل مع حرفيين محليين، في تنفيذ وتطريز وحياكة الملابس التراثية، بهدف دعم بقاء هذا التراث الثقافي، بدرجة عالية من الإتقان، والجودة، والخبرة، إذ يشاركون المستهلك الرأي لإنتاج أبهى صورة ممكنة من القطعة التراثية المطلوبة.
أما عن تحديد سعر الثوب؛ أوضحت أنه يعتمد على نوع القماش المستخدم، ونوع الخيوط، ومساحة الرسومات، وكم الألوان، وطريقة الحياكة، وخبرة الحرفي الذي سيحيكه إذا كان يدوياً.
وتواجه سوق الأثواب التراثية- بحسب النسور- تحديات منافسة الأثواب المشغولة آلياً بأسعار أقل بكثير من تلك المشغولة يدوياً، مما يجعلها أثواباً ليست ذات قيمة معنوية كبيرة لمن يرتديها، بل مجرد رداء لمناسبة وفقط، وهي مكررة ولا تميّز فيها بما يتناسب مع شخصية المرأة وذوقها.
وتدعو النسور السفارات والجهات المعنية، للترويج للأثواب التقليدية، المشغولة بأيدي حرفيين بطرق يدوية متقنة وعالية الجودة، بهدف تشجيعهم على الاستمرار في تقديم المنتج التراثي لكل العالم، أسوة بتجارب دول عربية أخرى.
"ضعف القوة الشرائية للمستهلك في السوق المحلية، وارتفاع تكاليف العمل على التاجر، وقلة فرص التصدير، تحديات مهمة ورئيسية تواجه العاملين في القطاع" وفق ما اعتبر مدير عام مطرزات الكرنك، محمود مناصرة.
ويعتبر مناصرة كذلك إن وسائل التواصل الاجتماعي وصلت لكل بيت، وساهمت في زيادة الوعي والتثقيف، بالأثواب التراثية والتقليدية، لمختلف الفئات العمرية، وفي المناسبات الاجتماعية والوطنية.
وساوى مناصرة بين إقبال المواطنين والسياح على شراء الأثواب التراثية والتقليدية، مبيناً أن ما يحدد سعر الثوب، هو نوعية القماش المستخدم، وخيوط التطريز، وكمية التطريز الموجودة على الثوب.
ويساهم التطور في التطريز الآلي بأجهزة الحاسوب، أقل تكلفة، وأكثر دقة وجمالية وتنوع في الرسومات، مما يجعل الأثواب أقل تكلفة، وفي متناول مختلف الفئات الاقتصادية، وفق مناصرة.
ويلفت إلى أن "الثوب التقليدي لا يعلى عليه، ولكن العاملين بالتطريز اليدوي، أصبحوا قلة، بالإضافة للتكلفة العالية جداً للثوب المشغول يدوياً".