الوزني يكتب : شعرة الاستثمار بين إحلال الواردات وتحفيز الصادرات


رم -

بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني

سياسات الإدارة الأمريكية في مجال التجارة الخارجية والتعاون الدولي تظهر اليوم وكأنها عودة إلى معترك الجدل حول نجاعة سياسات إحلال الواردات مقابل سياسات تحفيز الصادرات. ذاك المعترك الذي اعتمد على السجال بين الاقتصاديين حول أيهما أكثر نجاعة في تحفيز النمو، وخلق الوظائف، والاعتماد على الذات، وتقليل الانكشاف والهشاشة الاقتصادية، وتقنين الحاجة للعملات الأجنبية، وبناء الاحتياطيات الأجنبية. وقد اعتمدت سياسات إحلال الواردات على مفهوم تقليل الاعتماد على السلع المستوردة من خلال تشجيع الإنتاج المحلي للسلع البديلة.

 

وتبنَّت دول أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل والأرجنتين هذه السياسة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عبر فرض رسوم جمركية عالية على السلع الأجنبية ودعم الصناعات الوطنية. وقد لجأت كلٌّ من مصر والجزائر بشكل رئيس إلى تلك السياسة بعد الاستقلال، بهدف بناء قاعدة صناعية وطنية. لكن المدى البعيد أظهر أنَّ تلك السياسات أدَّت إلى ضعف التنافسية، وغياب الابتكار، واعتماد الصناعات المستهدفة على الحماية الحكومية، ما يعني تشوُّه كلف الإنتاج، والتساهل في الجودة، وعدم حماية المستهلك، والتغوُّل في التسعير في كثيرٍ من الحالات.

تشير تقارير البنك الدولي إلى أنَّ معدلات نمو الناتج الصناعي في أمريكا اللاتينية تراجعت خلال الثمانينيات لتصل في بعض الدول إلى أقل من 1% سنوياً، نتيجة الانغلاق وضعف الكفاءة. في المقابل، اعتمدت سياسات تحفيز الصادرات على فتح الأسواق، وتعزيز تنافسية الصناعات الوطنية في الأسواق العالمية، وجذب رؤوس الأموال الحقيقية غير المغامرة، واستقطاب الابتكارات النوعية، والاستغلال الأمثل للموارد المحلية، وللطاقات البشرية تأهيلاً وتدريباً وتعليماً ومعرفة، وللإمكانات اللوجستية للدول.

وكانت دول شرق آسيا، وعلى رأسها كوريا الجنوبية وتايوان، مِن أبرز الدول التي تبنّت هذا النهج منذ السبعينيات، حيث قدَّمت دعماً موجَّهاً للصناعات ذات القيمة المضافة العالية، مع الحفاظ على حوكمة استخدام المال العام، وتنويع مجالات وجغرافية الانفتاح التجاري. نتيجة لذلك، تضاعف الناتج المحلي لكوريا الجنوبية، على سبيل المثال، من نحو 2.7 مليار دولار عام 1962 إلى أكثر من 1.7 تريليون دولار في 2023، وفقاً لبيانات البنك الدولي. كما أصبح قطاع الصناعات التصديرية العمود الفقري للاقتصاد الكوري، بنسبة تفوق 40% من الناتج المحلي. اليوم، تُجمِع الأدبيات الاقتصادية الحديثة على أنَّ السياسات التصديرية، إذا اقترنت بحوكمة جيدة، ونقل للمعرفة، وتعليم وتدريب فعّالين، فإنها قادرة على خلق اقتصادات أكثر ديناميكية وتنافسية.

 

ولعلَّ المُحَفِّز الأكبر على استخدام سياسات التوجُّه نحو الصادرات يكمن في ثلاثة محاور أساسية؛ الأوَّل يرتكز إلى أهمية وجود خريطة وطنية للموارد الطبيعية القائمة والكامنة في كل دولة، وارتباط ذلك بالتكوين الصناعي الحالي والمستقبلي، مع الارتكاز على أهمية متطلبات الثورة الذكية القائمة والمستقبلية من تلك الموارد، للوصول إلى صناعات تحويلية، تخدم الاقتصاد الوطني، وتتوجَّه نحو الاقتصاد العالمي وفق تنوعية جيوسياسية تحفظ توزيع المخاطر وتحقيق المصالح. المحور الثاني يقوم على ضرورة توافر البنية اللوجستية الفوقية، وخاصة في مجال الحوافز الاستثمارية الحقيقية المرتبطة بتسهيل عمل المستثمرين، وتصفير البيروقراطية، والاستقرار التشريعي والسياسي، من جهة، ومن جهة ثانية توافر الاتفاقيات التجارية، الثنائية، أو الإقليمية، أو الدولية التي تساعد على النفاذ إلى الأسواق العالمية.

 

وأمّا المحور الثالث فهو ضرورة توافر إمكانات الإنتاج بكلف مقبولة وتنافسية، وخاصة في مجالات الطاقة، ولوجستيات النقل، وكلف العنصر البشري، مع أهمية توفيره محلياً بقدرات إنتاجية تنافسية وكفاءة عالية، أو إمكانية توفيره عبر العمالة المستوردة، إن لزم الأمر، شريطة ألا يكون ذلك لغايات توفير الكلفة على حساب الطاقات البشرية المحلية. وختاماً، فإنَّ الاختيار بين سياسات إحلال الواردات أو تحفيز الصادرات يعتمد بشكل كبير على خصائص وإمكانات كل دولة على حدة، وعلى درجة انفتاحها، وتوافر البنية التحتية، وكفاءة مؤسساتها.

*أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة

كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية




عدد المشاهدات : (4520)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :