التحديث السياسي: إستبّدال الخّالة بالعّمّة


رم - د. علي النحلة حياصات

في ظل الحديث المتواصل عن منظومة التحديث السياسي في الأردن، التي رُوّج لها كمسار لا رجعة عنه نحو دولة حديثة تعزز المشاركة الشعبية وتكفل التعددية، يبرز واقع مختلف تمامًا على الأرض. فثمة فجوة كبيرة بين الفكرة والتطبيق، وبين ما يُعلن وما يُنفذ فعليًا. الانتخابات النيابية لعام 2024 كانت مؤشرًا واضحًا على أن الإصلاح السياسي لم يتجاوز الطابع الشكلي، بل بقي محصورًا في تعديلات جزئية لم تلامس جوهر المشكلة: النهوض الحقيقي بالدولة والمجتمع.
الخطاب السياسي بين النخب الحزبية وغير الحزبية لا يزال يدور في دائرة مفرغة من الشعارات الكبرى، مثل "الثوابت الوطنية" و"الهوية الجامعة"، دون أن يقدّم أدوات واقعية لمعالجة التحديات التي تعيق نشوء بيئة ديمقراطية صحية. فالمشكلة لا تكمن في النصوص الدستورية أو تشّريع القوانين، بل في البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تُنتج النخب وتُدير العملية الحزبية والانتخابية برمتها.
أزمة التمثيل السياسي باتت أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. فالقوائم العامة، التي أُنشئت لتكون خطوة نحو العمل الحزبي المؤسسي، أفرزت نتائج محدودة التأثير. فعلى سبيل المثال، من أصل 41 مقعدًا، حصل حزب واحد على قرابة نصفها، بينما توزعت المقاعد المتبقية على تسعة أحزاب دون أن تترك أثرًا فعليًا في الحياة السياسية. وإذا استمر هذا النمط، فماذا سيكون عليه المشهد البرلماني حين تُرفع الحصة الحزبية إلى 90 مقعدًا بحلول عام 2032؟
أما المجتمع، فلم يصل بعد إلى مستوى من النضج السياسي يُمكّنه من الاختيار على أسس برامجية وفكرية واضحة. وفي المقابل، أخفقت الأحزاب، خصوصًا الجديدة منها، في كسب ثقة الشارع أو تقديم مشاريع سياسية قابلة للتنفيذ. وظلت حبيسة خطاب نخبوي تقليدي أو ممارسات تُعيد إنتاج ما كان يُفترض تجاوزه. ينطبق على هذا الواقع المثل الأردني الشهير "لا نستبّدل الخّالة بالعّمّة"، لكن ما جرى فعليًا هو العكس تمامًا: فبعدما كانت العشائر تختار ممثليها بمعايير معروفة، باتت الأحزاب تفرز ممثليها على أسس المصالح والمال والنفوذ.
المطلوب اليوم ليس التمسك بالشعارات ذاتها، بل وقفة مراجعة جادة تعيد النظر في آليات إنتاج النخب السياسية، وتؤسس لثقافة حزبية وطنية حقيقية، تُفصل فيها المصالح العامة عن الولاءات الضيقة، والعقل عن العاطفة، والمستقبل عن الموروثات البائدة. فالتحديث السياسي لا يُبنى بقرارات فوقية، بل بإرادة شعبية صادقة، ومناخ ديمقراطي حقيقي، يبدأ من الاعتراف بالمشكلة، لا من إنكارها.



عدد المشاهدات : (4396)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :