رم - التعليم العالي في الأردن
واقع وتحديات (2 – 7)
التحدّي المالي
د. هيثم علي حجازي
نتناول في هذا الجزء من هذه السلسلة التحدي الثاني من التحديات التي تواجه التعليم العالي في الأردن، والمتمثل في ضعف التمويل في الجامعات الأردنية.
يعتبر التمويل أحد الأركان الرئيسة لأي نظام تعليمي يسعى الى تحقيق النجاح والتميز، فبدون المورد المالي لا يمكن لأي مؤسسة تعليمية أن تحقق رسالتها المتمثلة في التعليم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع تعليمية، كما لا يمكنها إحداث أي تطوير سواء أكان على الصعيد الأكاديمي أو المؤسسي. وفيما يتعلق بمؤسسات التعليم العالي الحكومية يكمن ضعف التمويل كتحدٍّ رئيس يؤثر سلبا في أداء هذه المؤسسات، ويحدّ من قدرتها على الاستجابة للتغيرات الحاصلة في البيئتين المحلية والعالمية، ويُضعِف إمكانياتها وقدراتها على تحقيق رسالتها، علما ان هذه الجامعات هي المصدر الأساس لتزويد سوق العمل المحلي والعربي، وكذلك العالمي، بالمخرجات التي تتمتع بكفاءة عالية. وبالتالي، فإنها تتحمل أعباء اجتماعية واقتصادية، كونها الجهات الأكثر استيعابا لأعداد كبيرة من مختلف الطبقات، وتعتمد على الرسوم التي تتقاضاها من الطلبة كمصدر تمويل رئيس لها، في ظل تراجع الدعم المالي الرسمي الحكومي لها، علما أن هذه الرسوم غير كافية لتغطية النفقات المترتبة على الجامعات الرسمية. أما الجامعات الخاصة، فإنها لا تعاني من أي مشكلة تتعلق بالتمويل.
تتعدد مظاهر ضعف التمويل في الجامعات الرسمية، ويتبدى ذلك واضحا من خلال عدد من المؤشرات، منها:
• العجز المالي المستمر، الأمر الذي يؤثر سلبا على القدرة التشغيلية للجامعات، وتضخم مديونيتها.
• تدهور البنية التحتية والمرافق: وذلك بسبب ضعف التمويل، تجد بعض الجامعات صعوبة في صيانة مبانيها، أو تحديث مختبراتها، أو تطوير البنية التحتية التكنولوجية التي باتت ضرورية لمواكبة أنظمة التعليم الحديثة والتعلم الإلكتروني. علاوة على ذلك، فإن انخفاض الإنفاق على البحث العلمي: تُعد الجامعات ركيزة أساسية في البحث والتطوير، إلا أن النفقات المخصصة للبحث العلمي في معظم الجامعات الأردنية متدنية جدا، وغالبا ما تكون أقل من 1% من إجمالي موازنات الجامعات، مقارنةً بالنسبة العالمية الموصى بها والتي تصل إلى 3–5%.
• استنزاف الكادر الأكاديمي المؤهل: محدودية التمويل تؤدي إلى ضعف الحوافز الأكاديمية، وتأخر الترقيات، وتدني الرواتب، مما يدفع بعض الكفاءات الأكاديمية إلى مغادرة البلاد أو الانتقال إلى جامعات خاصة أو خارجية بحثًا عن ظروف مهنية أفضل.
• ضعف التوسع والتطوير الأكاديمي: تعجز الجامعات عن فتح تخصصات جديدة مواكبة للتطور التكنولوجي أو عن دعم مبادرات تطوير المناهج أو تأسيس مراكز تميز أو حاضنات أعمال، نتيجة لتقييد الموارد المالية.
الأسباب الكامنة وراء محدودية التمويل
• اعتماد مفرط على الدعم الحكومي: ظلت الجامعات الرسمية تعتمد اعتمادا كبيرا على التمويل الحكومي، دون وجود خطط مستدامة لتنويع مصادر الدخل أو تبني نهج ريادة الأعمال.
• نظام الرسوم الدراسية غير المتوازن: نظرا للضغوط الاجتماعية والاقتصادية، فإن الجامعات الحكومية تفرض رسوما دراسية منخفضة نسبيا، لا تغطي الكلفة الفعلية للتعليم، خاصة في التخصصات العلمية والطبية.
• ضعف في إدارة الموارد الذاتية: تعاني بعض الجامعات من ضعف في إدارة مواردها الذاتية، وعدم استثمار أصولها بشكل فعّال (مثل الأراضي، المراكز الطبية، أو الوحدات الإنتاجية)، مما يفوّت فرصا لتعزيز الإيرادات.
• غياب الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص: لا توجد علاقة استراتيجية متينة بين الجامعات وقطاع الأعمال في الأردن من حيث تمويل البحوث أو دعم البرامج الأكاديمية أو المشاركة في تطوير المناهج والتدريب، وهي علاقة يمكن أن تشكل مصدر دخل ورافعة للتطوير.
• غياب حوافز لجذب التمويل الدولي: ضعف القدرات المؤسسية في إعداد المشاريع الدولية، وغياب ثقافة التنافس على المنح، يحول دون استفادة الجامعات من فرص التمويل الدولي ومنح البحث والتطوير.
الآثار السلبية لمحدودية التمويل
• انحدار جودة التعليم: يؤثر ضعف التمويل على نوعية التجهيزات، وعدد الكادر الأكاديمي، وفرص التدريب، وكلها عناصر حاسمة في جودة التعليم الجامعي.
• محدودية المساهمة في التنمية: تُعيق الأزمة المالية قدرة الجامعات على لعب دور محوري في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، سواء من خلال البحوث التطبيقية أو التعاون مع القطاعات الصناعية.
• تراجع التنافسية الإقليمية والدولية: بسبب محدودية الموارد، تتراجع الجامعات الأردنية في التصنيفات العالمية، مما يضعف من قدرتها على جذب طلبة دوليين أو توقيع شراكات مع مؤسسات عالمية مرموقة.
• تنامي الأزمة الداخلية: ينتج عن الأزمات المالية تأخر دفع الرواتب، وتجميد الترقيات، والاقتطاعات، ما ينعكس في شكل توترات داخلية، وعدم استقرار إداري.
استراتيجيات مقترحة لمعالجة تحدي التمويل
• إصلاح منظومة التمويل الحكومية: يجب اعتماد نظام تمويل يعتمد على الأداء، يربط حجم الدعم المقدم بمؤشرات محددة مثل جودة التعليم، نسب التوظيف، وعدد الأبحاث المنشورة، مما يحفز الجامعات على تحسين أدائها.
• تنويع مصادر الدخل: ينبغي للجامعات تطوير مشاريع استثمارية مدرّة للدخل، مثل المستشفيات الجامعية، مراكز التعليم المستمر، وحدات الإنتاج، والاستثمار في أصولها العقارية.
• تشجيع الشراكة مع القطاع الخاص: تفعيل التعاون مع الشركات الكبرى لتمويل برامج تدريبية أو كراسي بحثية أو حاضنات أعمال جامعية، بما يعزز التمويل ويوفر فرصا عملية للطلبة.
• تعزيز استقطاب الطلبة الدوليين: العمل على تحسين جودة البرامج والخدمات الأكاديمية لاستقطاب مزيد من الطلبة من الخارج، مما يُعد مصدرا مهما للدخل بالعملة الصعبة.
• بناء قدرات التنافس على المنح الدولية: تأسيس وحدات متخصصة في إعداد المشاريع والمنح، وتدريب الكوادر على آليات التقديم لشبكات التمويل العالمية، مثل الاتحاد الأوروبي، الوكالات الإنمائية، ومنظمات الأمم المتحدة.
• إدخال نظم حوكمة مالية صارمة: تطبيق معايير الحوكمة المالية والشفافية في الإنفاق الجامعي، وتعزيز الرقابة الداخلية والمساءلة، لضمان استخدام الموارد المتاحة بكفاءة وفعالية.
إن محدودية التمويل في الجامعات الأردنية ليست مجرد عارض مالي، بل هي أزمة متداخلة تمس جوهر جودة التعليم واستدامته، وتؤثر على مستقبل آلاف الطلبة، وعلى قدرة الأردن على المنافسة في اقتصاد المعرفة. لذا، فإن التصدي لهذا التحدي يتطلب إرادة سياسية، وتخطيطا استراتيجيا، وتعاونا وثيقا بين الحكومات والجامعات والقطاع الخاص والمجتمع المدني. فالاستثمار في الجامعات هو استثمار في مستقبل الوطن.