رم - هشام عوده شاعر مقاوم من أجل الحياة
هشام عودة... لا يمكن للشاعر أن يغنّي بدون حرية
الشعر الملتزم رديف لسلاح مقاومة الاحتلال الصهيوني
رغم هزائم الامة والمعاناة الشخصية، رفض الشاعر ان يرفع الراية البيضاء
دانة داود القرنة *
ربما يكون الحديث عن الشعر والشعراء من أجمل اللحظات التي قد يعيشها الإنسان. وعندما تكون في حضرة شاعر فريد له موقف من الحياة ومن قضايا الأمة فإن هذه التجربة المعاشة ستظل محفورة في ذاكرتك وتمدك بالأمل كلما حاصرتك غيوم اليأس.
هشام عودة ليس اسمًا حركيًا، ولكنه واحد من أهم الشعراء الملتزمين بقضايا وطنه وأمته. تفتّح وعي الصبي أحمد عبد الحميد عودة، وهذا هو اسمه الحقيقي، في قرية كفل حارس القريبة من نابلس بالضفة الغربية عندما رأى قوات العدو الصهيوني فانغرس المشهد في ذاكرته ليتفجر بعد ذلك شعرًا مقاومًا.
وأنت تقرأ اعماله من الشعر الحر، فأنت تتعرف إلى شاعر مسكون بقضية فلسطين وبالهم العربي العام، في قصائده تندهش للرؤية الاستشرافية للأحداث وبخاصة ما يحدث الآن في غزة وجنين من مجازر ومذابح صهيونية للشعب العربي في فلسطين، وهو لا يتوقف عن النبش في الذاكرة حتى لا ننسى ولا نغفر.
تتهادى كلماته كموجات البحر، وتأخذك إلى الماضي وإلى أماكن تحس بأنك تعرفها منذ الأزل، وعندما تحاول اعتياد هدوء المكان وعبق الزمان والجلوس في هدأة الليل، يوقظك بأغنية عن انتظار الوطن لا تلبث أن تنقطع عندما يدوّي صوت الرصاص وارتطام الحجارة ودم الشهداء وتمر الجنائز والتوابيت وهدير البحر الذي تركه الغائبون وراءهم.
يفتش في جيوب الليل عن وطن في العراق
بعد انتقاله من القرية، كانت مدينة نابلس تجربته الأولى مع المدينة حيث أنهى فيها دراسته الثانوية ليغادرها في عام 1975 إلى العراق ليلتحق بكلية الإدارة والاقتصاد في الجامعة المستنصرية ببغداد. في هذه المدينة " لم أشعر بالغربة على الرغم من شعوري بالحنين إلى فلسطين"، وفي هذه المدينة التي عاش فيها 20 عامًا " تعلمت أن أكون شاعرًا وصحفيًا ومناضلاً من أجل الحرية".
في بغداد انفتح أمامه عالم الشعر بكل امتداداته وأشكاله " فالعراق بلد الشعراء من أيام المتنبي وصولاً إلى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وشعراء العراق العظماء. وفي بغداد نشرت أولى مجموعاتي الشعرية ولبغداد كتبت مقامات وقصائد عشق"،فانضم إلى إذاعة فلسطين ببغداد وظل يصدح منها داعيًا إلى المقاومة والصمود وعمل محررًا في مجلة الثائر العربي الفلسطينية وجريدة الثورة العراقية وشارك في مهرجاناتها وندواتها الشعرية.
ونظرًا لإيمانه بأن فلسطين لن تتحرر بقصائد الشعر والخطابات، فقد حمل السلاح مقاتلاً في جنوب لبنان، وعندما خاض العراق معارك الثماني سنوات، انضم أيضًا إلى المقاتلين لإيمانه بأن قضايا الأمة واحدة في مقاومة المحتلين والغزاة، كما قاتل في أثناء سنوات الحصار وغزو العراق إلى أن اضطر إلى مغادرة بغداد والعودة إلى عمان في عام 1997 وهي المدينة الأخرى التي أحب وكتب لها "‘عمان في البال".
كان يوم الرحيل عن مدينة الشعر والثقافة بغداد يحمل مشاعرًا مختلطة في نفس الشاعر الذي شعر انه يفارق مدينته مرة اخرى ويتركها كما ترك نابلس قبلها، وفي اللحظات الاخيرة له على طرق بغداد الحزينة، تراكمت الذكريات والمشاعر وتراقصت كلمات الوداع في رأسه كأشعارٍ مؤثرة، بهذا الحزن الممزوج بالامل عاد الى الاردن كصحفي معروف وظل يعمل في الصحافة حتى عام 2015.
وهو في العراق نال عدة جوائز تكريمية وانواط شجاعة اعترافًا باسهاماته الادبية والنضالية، وفي الاردن حاز على جائزة افضل ديوان شعر في عام 2016 عن مجموعته الشعرية "ماقاله الراعي لصاحبه"‘ كما حصل على جائزة أفضل ديوان شعر عام 2021 عن مجموعته الشعرية "درج العتمة " وهي الجائزة التي تمنحها رابطة الكتاب الأردنيين .
20 عامًا قضاها هشام في العراق كانت مثل مشهد من فيلم درامي، اذ لمع فيها اسمه صحفيًا، شاعراً، ناشطًا، سياسيًا وحزبيًا لالتصاقه بقضايا وطنه، حيث ترسخت شخصيته وتوسعت آفاقه فاصدر فيها اول مجموعاته الشعرية.
وسط ازقة بغداد العتيقة، تقاطعت طرق هشام عودة مع عدد من الشعراء والصحفيين الكبار،"كان لهم الاثر في تطوير ذائقتي وادواتي الشعرية والصحفية والاذاعية، فيمكنني القول ان المرحلة التي امتدت من نهاية ثمانينيات القرن الماضي حتى نهاية تسعينياته كانت مرحلة مهمة في حياتي"، هكذا وصف تلك الحقبة في حياته رسمت الملامح الاساسية لإرثه الشعري الذي ما يزال مستمرًا حتى هذه اللحظة.
"كما حصلت على تكريم من الرئيس الشهيد صدام حسين عبارة عن خمسة أوسمة منحني اياها نتيجة موقفي في الدفاع عن العراق والأمة العربية بالقلم والبندقية. وهذه ما تزال من الهدايا او من الاوسمة ومن المواقف المهمة في حياتي وما زلت احتفظ بها حتى هذه اللحظة."
من محراب الوطن الى لظى القصيدة
لا يمكن اختزال شعر هشام عودة في مقالة، فقد كتبت عن شعره دراسات وبحوث نقدية وأكاديمية كثيرة، فشعره ينساب إلى القلب مثل نسمات الصبح، لكن بوصلته لا تحيد عن اتجاهها وهي حلم العودة إلى فلسطين.
في بداية مسيرته في اروقة عالم الثقافة والادب، واجه هشام صعوبة واضحة، فهو ابن قرية بسيطة اذ لم يكن للمكتبات مكان في واقعه ولا حتى في مدرسته البسيطة، "كنت استغل ذهابي الى المدينة، لشراء اي كتاب اراه في المكتبة او في السوق بما يتناسب مع مدخراتي المادية"، بهذه الكلمات يصف هشام مثابرته على التعلم في ظل الظروف االصعبة التي كان يعيشها مثل معظم معاصريه من سكان القرى.
عندما كان طالبًا في المدرسة، حاول هشام عودة ان يؤسس لنفسه مكتبةً صغيرةً في منزله المتواضع، وبسبب الحصار الذي فرضه الاحتلال على قريته وسكانها كما كل فلسطين. لم تكن الكتب العربية تصل الى فلسطين، اذ كانت معظم هذه الكتب التي تسعى للحصول عليها هي كتب المثقفين الفلسطينيين سواءًا كانوا من الضفة الغربية او من جزء فلسطين المغتصب عام 1948.
لم يتذوق هشام واقرانه طعم الطفولة ابدًا، فقد قتلها الاحتلال وادخلهم مرحلة الرجولة في عمر البراءة، كانوا يواجهون صراعًا مريرًا ضد هذا العدو الفاشي الذي حاول بكل الطرق قتل كل اشكال الحياة، فتصاعدت رغبتهم في الدفاع عن ارضهم ووطنهم الى مقاومة حازمة سواءًا في القرية او في المدينة، فلم تكن تلك الفترة مجرد تحد فردي بل كانت تحديًا جماعيًا ينتظر جيله ومجتمعه بأسره.
"لم تكن سنوات دراستي سهلة ابدًا، فقد انهيت دراسة الثانوية العامة في فلسطين في ظل تحديات وصعوبات عديدة، حيث كانت في كثير من الاحيان في مواجهة مع الاحتلال من خلال التظاهرات والاضرابات"، هكذا عبر هشام عن تلك المرحلة التي كان الاحتلال يفرض فيها منع التجول، مثل كثيرا من القضايا التي تُحَكِمُ على الشعب المحتلة ارضه ان يقاوم ذلك المحتل.
وهكذا، فقد تركت كل هذه التجارب المريرة التي مر بها، ومرت بها أمته، أثرَا عميقًا في نفسه وفجّرت في داخله ثورة عبّر عنها شعرًا مقاومًا ليواصل مسيرة محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وغيرهم.
وعلى وقع مشهد هزيمة حزيران 1967، كتب هشام اول قصائده في مواجهة الاحتلال ومقاومته عندما كان عمره 11 عامًا، فأعلن معلّم اللغة العربية لزملائه في الصف عن ولادة شاعر، الا انه يعترف بأنه لم يكن شاعرًا بما تعنيه الكلمة آنذاك، الا ان وعيه الشعري تفتح بعد ذلك بسنوات قليلة.
بعد مسيرة حافلة بالنضال والكتابة الغزيرة، وصلت اصدارات الشاعر هشام عودة حتى الان الى ما يقرب من 25 كتابًا نصفها تقريبًا في الشعر ونصفها الاخر يتناول قضايا اخرى في التراث وثقافتي البحث والحوارات " وما زال في جعبتي العديد من المخطوطات التي امل ان ترى النور في المستقبل القريب."
عُرف هشام عودة ناشطا نقابيا وسياسيا وحزبيا "حيث أنني اصبحت عضوا في الهيئة الادارية لرابطة الكتاب الأردنيين لاكثر من دورة وشاركت في اكثر من مؤتمر ادبي للاتحاد العام للكتاب والادباء العرب في أكثر من عاصمة عربية وشاركت في مهرجانات شعرية عديدة لعل من ابرزها مهرجان المربد ومهرجان جرش وغيرها من المهرجانات الادبية والشعرية والثقافية هنا او هناك.
استفاد شاعرنا من تجربة شعراء كبار مثل سميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، كما كان يتابع اصدارات فدوى طوقان وعبد اللطيف عقل وعلي الخليلي وغيرهم من الشعراء والادباء الفلسطينيين من الضفة الغربية ومن المناطق المحتلة عام 1948، ومن هنا بدأت المرحلة المؤثرة والمهمة في بناء تجربة هذا الفتي القروي.
دراسته في كلية النجاح الوطنية، المدرسة الشهيرة في نابلس، كانت مرحلة حاسمة في بناء وعيٍ جديد، لما كانت تحمله هذه المدرسة من خصوصية في نفس الشاعر الذي كان طالبًا على مقاعد الدراسة آنذاك، اذ درس في هذه المدرسة شاعر فلسطين ابراهيم طوقان والشاعر عبد الرحيم محمود وكثير من رموز الادب والسياسة الفلسطينية في مراحل متعددة، فقد شعر أنه يسير "اعلى نفس الخطوات وفي نفس الطريق الذي سار فيها قبلي شعراء فلسطين، وحظيت في تلك المرحلة بفرصة التعرف إلى مجموعة من المعلمين الذين كان لهم دور ايضًا في بناء وعيي السياسي والثقافي والادبي والابداعي فكانت مرحلة مهمة في حياتي".
شاعر المقاومة، هكذا صنفه من تناول قصائده في دراساته النقدية او الاكاديمية، تلك الدراسات لم تكن مجرد تحليلات بل كانت رحلة استكشافية لروح الشاعر وما تحمله قصائده من ألم وصراع وأمل و "هذا شرف كبير لي ان اكون في هذا الخندق وان اكون الى جانب ابنائي واشقائي واصدقائي ورفاقي في المقاومة الفلسطينية في كل مواقعها سواء كانت قبل عام 1982 في لبنان او كما يحدث الان على ارض فلسطين الثائرة المناضلة".
وقد حظيت أعمال شاعرنا بانتشار واسع حيث ترجمت قصائده ايضا الى عدد من لغات العالم الحية وكتب عنها في اكثر من جامعة واكثر من منصة اعلامية وثقافية في الوطن العربي وخارجه. وتناولت أعماله دراسات نقدية واكاديمية عدّة فكتبت عنها اكثر من رسالة ماجستير في عدد من الجامعات الاردنية والفلسطينية واللبنانية وغيرها . واصدر نضال برقان كتابا "جمع فيه ما كتب عني تحت عنوان مقاوم من اجل الحياة، هشام عودة شاعرا ، واصدر الشاعروالناقد الفلسطيني الدكتور زاهر حنني كتاب "اللجة البيضاء، قراءة في شعر هشام عودة،. وأصدرت الناقدة الفلسطينية إيمان مصاروة كتابا بعنوان " سيميائية الطبيعة واللون والمكان في ديوان درج العتمة للشاعر هشام عودة."
رحلة مهنة المتاعب
لم يقتصر ابداع هشام عودة على الشعر، فقد استخدم مهارته اللغوية في ممارسة مهنة الصحافة إلى اليوم الذي فقد فيه ضوء عينيه، وحتى عندما توقف ظل مصممًا على التمسك بحبل الحياة حتى النهاية:
لن ابيع عصاي.... ولن اتوكأ الا عليّ
وعن مسيرته الصحفية يقول: "عملت صحفيا باعتبار الصحافة هي الاقرب الى الحالة الإبداعية وهي التي تشترك مع الشعر والابداع من حيث اللغة. وكذلك عملت اذاعيا. وأنت تعرفين ان الاذاعة ايضا لها علاقة باللغة ومن هنا كانت الكتابة هي محور عملي منذ تفتح وعيي ومنذ اول مرة عملت فيها منذ عام 1977 حيث حظيت بعضوية الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطنيين حتى هذه اللحظة اي ما يزيد على 46عاما".
وعمل في عدد من الصحف الاردنية الى ان استقر به المقام في جريدة الدستور وكانت محطته الاخيرة.
في عمان ترك بصمات واضحة على المشهد الثقافي شعرا ومقالات وسيرة شخصية وانضم الى رابطة الكتاب الاردنيين ونقابة الصحفيين الاردنيين وساهم في كل الانشطة التي من شانها ان ترتقي بمستوى هاتين المؤسستين الوطنيتين.
عايش هذا الشاعر عقودًا من الهزائم العربية وحالات التشرذم السائدة إلى أيامنا هذه، لكنه لم يفقد الأمل بنهضة هذه الأمة وانتصارها، وحتى على المستوى الشخصي، فقد استطاع أن ينتصر على المرض وعندما خبا نور عينية "رفضت أن أرفع الراية البيضاء ورفضت أن استسلم للعتمة."
طوال سنوات المخاض الطويل ظل الشاعر وفيًا لقناعاته:"كنت قريبا من قضايا وطني، ونبض امتي وشعبي. في تلك المرحلة كنت فدائيًا اذ قاتلت بقلمي وبندقيتي دفاعًا عن الثورة الفلسطينية وعروبة لبنان في جنوب لبنان، كما دافعت بقلمي وبندقيتي عن العراق في مواجهة العدوان الامريكي والعدوان الايراني في تمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وكنت على استعداد للقتال في كل مكان يتطلب وجودي فيه".
الإرادة والإيمان يهزمان المرض
في أغلب الأحيان لا يُختبر صبر الإنسان وإيمانه إلا من خلال المرور بمتقلبات الحياة ومنها المرض: "المحطة المهمة ايضا في حياتي هي انني فقدت بصري في عام 2017 .فقدت جزءا مهما وحيويا من من الحالة البصرية التي لها علاقة مباشرة بالشارع والصورة والالوان لكني لم أنقطع عن الشعر والكتابة. وقبلت التحدي واستمريت في الكتابة".
في عام 2022 وبعد خضوعه لعدد من الفحوصات الطبية تبين انه مصاب بالسرطان. وكان عليه في هذه المرحلة ان يواجه عدوًا حطيرًا. لكن هذه المرة في داخل الجسد.
بروح النضال التي تشرّبها طوال حياته، قرر خوض المعركة حتى اخرها فواجه هذا المرض بارادة صلبة ومعنويات عالية تماما مثلما واجه اعداء اخرين بقلمه وبندقيته طوال مسيرة حياته التي ارتحل فيها إلى اكثر من دولة ومكان وساحة معركة.
وبسبب هذه الارادة العالية وبسبب اصراره على الانتصار خاض هذه المعركة بكل ما يملك من قوة الى ان انتصر على هذا المرض الخبيث بعد عام من العلاج.
مع ذلك، "فهذه لم تكن مرحلة بسيطة أو حالة عابرة. لقد عشت اياما صعبة وعشت اياما مريرة كان فيها المرض يحاول القضاء على اخر ما تبقى من حياتي لاكثر من مرة، لكنني تغلبت على تداعيات المرض والحمد لله بفضل الله اولا وبفضل ارادتي والعلاج واستطعت ان اهزمه الى غير رجعة ان شاء الله. وهذه التجربة سيكون لها مكانها في كتاباتي حيث أسعى الان إلى تدوين هذه المرحلة التي عشتها وكنت أقول لاصدقائي ولاهلي ولكل من اعرفه اذا انتصر عليّ السرطان ساموت واقفا كأشجار وطني. بمعنى انني لن ارفع الراية البيضاء أمام المرض الخبيث الى درجة اجبرته هو على رفع الراية البيضاء ومغادرة جسدي والانتصار عليه بحمد الله".
في انعطافات هذه الحياة المليئة بالنضال والعطاء، تظل لشاعرنا أمنية وحيدة:
"خذ ما تشاء من الدنيا وفتنتها... واترك لقبري مكانا في ثرى وطني" .
*طالبة في صحافة اليرموك .