زمان هندسة الجمهور والديماغوجية


رم -


بقلم المهندس عامر عليوي

يقول الصحفي والروائي البريطاني جورج أورويل: "إننا جميعا لدينا القدرة على تصديق أمور نعلم أنها كاذبة، ثم عندما يثبت خطؤنا في النهاية نقوم بكل وقاحة بليّ الحقائق لكي نبين أننا كنا على حق".
ويقول الفيلسوف الدنماركي كيركجارد: "إن الناس يحبون من يخدعهم".
وقال الكاتب البريطاني نيكولاس كار المتخصص في التقنية، ومؤلف كتاب "الضحالة" عن تأثير الإنترنت على طريقة تفكيرنا: "إن الإنترنت قد حولنا إلى أغبياء وسطحيين، ومشتتي الانتباه والتفكير؛ لأننا نفتقد الربط بين ما نتلقاه وما يرسخ في الذاكرة من معرفة".


فهل من لحظات نتوقف فيها مع أنفسنا ونراجع مواقفنا ونتساءل: هل باتت تتحكم مواقع التواصل الاجتماعي بعقولنا ومشاعرنا وتؤثر على أفكارنا وتصرفاتنا؟!! أصبحنا نعيش حالة معظمنا يحمل في يده هاتفه الذكي ويقلب صفحات الفيسبوك، أو تويتر، أو انستغرام، أو واتس آب، أو غيرها، والكل منشغل يبحث عن الجديد، ما الذي يفعله الأصدقاء، ما هي آخر الأخبار والتطورات، التفاعلات مع منشوراتنا، حتى عندما نخرج في رحلة أو إلى مطعم نبدأ بمشاركة صور المناظر السياحية والوجبات التي نتناولها وغيرها، الفضول جعلنا مدمنين على تفقد أجهزتنا الذكية كلما سنحت الفرصة.


لقد أصبحنا نعيش في حالة خداع وإخضاع وتم تحويلنا الى ما يسمى باللغة العربية "مفعول به" يتم التلاعب بنا من قبل فئة مجهولة، لها أهدافها ومآربها مستغلين حالة الإدمان التي نعيشها على وسائل التواصل الاجتماعي، فلنجلس مع أنفسنا ولنحاول تحديد المصدر الرئيسي لأفكارنا ومعلوماتنا وقناعاتنا، وبعدها نجيب عن التالي:
• ما الذي يضمن اننا لم نتعرض الى خديعة، بل خدع كثيرة؟
• من منا لا يشعر بأن تصفحه لشبكات التواصل الاجتماعي يقوم بتغيير مزاجه والتلاعب بأحاسيسه؟
• ما الذي يمنع ان تكون سلوكياتنا وردود افعالنا في مجالات متعددة لا شعوريا هي بناء على ما ينقل لنا يوميا عبر رسائل الواتس او بناء على ما ينشر او يتم إعادة نشره على صفحات الفيس بوك والتويتر وغيرها، صيغ اكثرها بعناية فائقة بمكان ما لتحقيق اهداف لفئة ما؟!!!

قالوا لنا إن وسائل التواصل الاجتماعي هي للتقريب والتشبيك والتشارك وتبادل الآراء، ولتسهيل الحياة على الناس، بالله عليكم من ذا الذي ينفق كل هذه الملايين من الدولارات على ادامة عمل هذه الوسائل فقط لخدمة البشرية لإمتاعهم ولتقاربهم ولينقل لهم ما يحدث في العالم دون تزوير او تزيف؟!!!!. والأمر من ذلك اننا نعتقد بأننا شعب يتصف بالذكاء والفطنة والعظمة والالمعية وغيرها من الصفات الخلاقة واتسأل هنا: افلا ترون معي ان تعزيز هذه الفكرة لدينا (الاتصاف بالذكاء والفطنة...الخ) ما هي الا وسيلة لتضليلنا عن معرفة الحقيقة، وليتم التحكم بنا كيفما يشاؤون ومتى يشاؤون؟!!!!!!!!!.


قال الفيلسوف اليوناني سقراط قبل ما يزيد عن 2500 سنة وهو من أوائل من درس الديماغوجية: " أينما يخدع الناس فيصيغون آراءهم بمنأى عن الحقيقة يتضح ان الخطأ قد تسلل الى عقولهم عبر صورة معينة تشبه تلك الحقيقة ".


وتصبح الأمور أكثر وضوحا بعد معرفتنا لمعنى الديماغوجية واشتقاقها، الديماغوجية: هي كلمة يونانية مركّبة من "ديموس" أي الشعب و"غوجيه" أي العمل، وهي اختصار لمصطلح سياسي وهو "العمل لمصلحة الشعب". وهذا ما تم تسويقه لنا عن اهداف وسائل التواصل الاجتماعي. وتعرف الديماغوجية على أنها: "القدرة على كسب تعضيد الناس ونصرتهم عن طريق استثارة عواطفهم واللعب بأحاسيسهم ومشاعرهم وليس عن طريق الحوار العقلاني معهم". ببساط هي: طريقة لكسب التأييد ولفت الانتباه، واستراتيجية لإقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة. وهذا يحمل عليه مفهوم سياسي لكلمة الديماغوجية يطلق عليه عبارة "حكم الغوغاء" او "ديموقراطية الغوغاء"، وهي القابلية للانخداع، والاندفاع خلف من ينجح في استثارة عواطفنا وغرائزنا البدائية، مما يجعل رأينا في النهاية غير رشيد. ويؤدي إذا ما تم السير على هديه إما إلى الفوضى، أو إلى ارتكاب الجرائم بشتى انواعها، والتاريخ يزخر بالكثير من الجرائم وحالات الفوضى التي كان للجماهير فيها اليد الطولى في ارتكابها ليس فقط من قبل قيادي الغوغاء تحقيقا لرغباتهم ومطامعهم الشخصية وانما أيضا برغبة ذاتية للشعوب تفريجا عن نوازعهم وميولهم التي على الاغلب هي ضد كل ما هو جديد وتغتنم الفرص لممارسة الفوضى والتخريب والعنف وهذا هو مبدأ من مبادئ هندسة الجمهور.


ناقش مؤخرًا الرئيس الأول لفيسبوك (شون باركر) العملية الفكرية وراء بناء هذه الشبكة الاجتماعية، ووصفها بالآتي:" كيف نستحوذ على أكبر قدر من وقتك واهتمامك الواعي؟ يتم ذلك عن طريق إعطاء المستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي زيادة في افرازات الدوبامين (مادة كيميائية في المخ مسؤولة عن الشعور بالسعادة واللذة) من كل حين لآخر عندما يقوم أحدهم بعمل تعليق أو يسجل إعجابه بصورة أو منشور لك، مما سيجعلك تشارك أخبارك أكثر مستقبلًا". واستطرد باركر قائلًا: "هذا بالضبط ما سيفعله شخص مثلي ليستغل نقطة ضعف في النفس البشرية وهي حب الاهتمام، أنا ومارك زوكربيرج (مؤسس موقع الفيسبوك) كنا ندرك هذه النقطة وقمنا بإنشاء الموقع على أي حال". ومع هذا كله ما زال يغفل الكثيرون ممن يتعاملون مع هذه المواقع أن اللاوعي لديهم والتفكير والعواطف والإدراك، تلعب دورا كبيرا في طريقة استخدامهم لها، بدءا من كتابة منشور أو مشاركته أو الإعجاب بمنشورات الآخرين أو حتى المتابعة بصمت.


وفي دراسة اجراها الباحث وينبرج من جامعة ستانفورد يقول: "ما نراه على وسائل التواصل الاجتماعي هو عبارة عن طوفان من الأخبار الزائفة، يحدث أن الناس يمرون عليها بدون تفكير، ولا يمكننا حقا لوم الشباب على ذلك لأننا لم نعلمهم مطلقا أن يفعلوا غير ذلك".


وأثبتت التجارب والدراسات أن الأخبار الملفقة أو المتجزأة هي الأكثر انتشاراً على شبكات التواصل الاجتماعي والسبب أن مؤلفي هذه الأخبار يتقنون فن انتقاء كلمات قليلة الاستخدام لغوياً أو مؤثرة تثير فضول المستخدم لقراءتها.


ان هذا التلاعب الخفي في مشاعر الناس فرض هندسة اجتماعية جديدة بدأنا نرى أثرها في حياتنا اليومية، فأصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مرتعاً للأفكار الغريبة والأخبار الملفقة أو المجتزئة التي يقوم بنشرها جهات متخصصة لها أهداف معينة تستغل الدين والمذهب وغيرها، وأصبح الكثيرون حتى المثقفون منهم يتبادلون هذه الأخبار الملفقة والأفكار الغريبة دون كامل إدراك بما يفعلون. الخطر الأكبر يكمن باستغلال شبكات التواصل للتحريض ونشر الكراهية، وهذا ينطبق على الحكومات والمؤسسات الإعلامية، فبعض الحكومات والأحزاب خلقت جيوش إلكترونية تقوم بتهيئة الرأي العام والتأثير به وهذه التقنية أصبحت تسمى ب "الذباب الإلكتروني".


لقد باتت الدول المتقدمة من خلال أجهزتها الاستخباراتية تستخدم خوارزميات للذكاء الاصطناعي تراقب وتحسب كل ما نُسجل به إعجابنا على الفيسبوك والتويتر والانستغرام وغيرها، وتقوم بعملية مسحٍ، وبحثٍ، وتفتيشٍ، لعددٍ لا يُحصى من السجلّات، – أي لكل ما ننشره على الإنترنت - وتقوم بتحليل ميولنا وتفهم شخصياتنا ورغباتنا. ومتى ما أدركنا هذه الحقيقة فإننا سنعترف باننا أصبحنا مسخرين بكل افعالنا ويتحكم بنا من قبل من يديرون ويسيطرون على هذه المواقع، فهم يتلاعبون بنا كيفما شاءوا ومتى شاءوا. إذا نحن الان امام تحدي كبير كيف نعيش حياتنا والآخرون يعرفوننا أكثر مما نعرف أنفسنا؟ وكيف لنا أن نعيش بحُرية إذا ما علمنا ان هناك صناعات قائمة على جذب اهتمامنا وبيعه وأفضل طُعم لذلك هو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي؟!!!!


من اقوى التصريحات عن خطورة واهمية الذكاء الاصطناعي هو ما صرّحَ به الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين مؤخّرًا عن الذكاء الاصطناعيّ اذ قال: "إن الذي سيكون رائدًا في هذا المجال، سيصبح الحاكم لكل العالم".


إذا شئنا ام ابينا نحن في كل يوم يحدث لنا نوع من أنواع اختراق وغسل للدماغ، فالإعلام يعمل على ذلك من دون توقف، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة ما ينشر على صفحاتها باستخدام تكتيكات التكرار والتلاعب بالعواطف وبشكل مستمر تعمل أيضا على غسل ادمغتنا بطرق عديدة.

وكتب الناشط في قضايا الخصوصية لورين وينشتاين مستغرباً على موقع جوجل بلاس: "لقد قتل الفيسبوك أي شخص من خلال حيلة التلاعب بالعواطف". وصرح دنكان واتس، وهو باحث يدرس السلوكات القائمة في الإنترنت في شركة مايكروسوفت، قائلاً: "يتم التلاعب بنا في كل الأوقات ومن دون علمنا أو أخذ موافقتنا – من خلال المعلنين والمسوِّقين والسياسيين – ونحن نقبل بذلك باعتباره جزءاً من الحياة". وقال نيكولاس كريستاكيس، وهو باحث في علم الاجتماع من جامعة يل استخدم بيانات من الفيسبوك من أجل إجراء دراسة له، قال: "إن التسويق بشكل عام مصمم بحيث يتم التلاعب بالعواطف ".


معرفتنا بكل هذا يضعنا بمواجهة الجواب على السؤال، كيف نستفيد من تلك المواقع بدون أن نسمح لها بأن تستحوذ علينا في كل جوانب حياتنا؟
قبل الإجابة على ذلك لنستمع للأغنية الشهيرة (invictus) I am the master of my fate, I am the captain of my soul "أنا سيد قدري، أنا زعيم روحي" ونبدأ بتطبيق كلماتها، ومن ثم علينا التفكير في العوامل النفسية التي قد تجعلنا عرضة للاعتماد الزائد على المواقع الاجتماعي، ولنبدأ باستخدام تطبيقات تساعد في التقليل من الوقت الذي يُستهلَك في تصفح تلك المواقع مثل تطبيقات (Freedom, Moment, Stay Focused).


كما يقع على عاتق الحكومة سن التشريعات الازمة لضمان المساءلة القانونية في حالة انتهاك خصوصية المستخدمين، وهنا لا أعني منع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي أو محاربتها، فشبكات التواصل الاجتماعي أصبحت جزءاً هاماً من حياتنا وليس مطلوباً على الإطلاق تركها والبحث عن حلول أخرى للتواصل، ولكن إدراك أهمية الخصوصية وتنويع مصادر المعلومات والتأكد من الأخبار المتناقلة أصبحت ضرورة فردية ومجتمعة ورسمية، وعلى الحكومات أيضاً لعب دور في محاربة التطرف والأفكار الغريبة عبر التعليم والتثقيف، الحكومات عليها أيضاً مسؤولية حماية رعياها من استغلال معلوماتهم المنشورة على صفحات التواصل الاجتماعي لأغراض تجارية أو لأهداف فكرية وإيجاد حلول فاعلة لمحاربة ما يسمى بالذباب الإلكتروني من أجل الحفاظ على بيئة مجتمعية سليمة.
المصادر:
• كتاب هندسة الجمهور.
• كتاب الضحالة.
• الاستراتيجيات العشرة لخداع الجمهور.
• مقطع فيديوي السيطرة على العقول.

*جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية




عدد المشاهدات : (7844)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :