حكايات الزمن المنسي .. في بوح القرى


رم -

رم- تراثنا



هي حكاية قديمة، وقصة عتيقة، أبطالها منسيون في هوامش التاريخ، وأحداثها مختلطة بعبق الخيال الذي نسجها يوماً لتعيش.. وتوالت الحكاية حتى صارت في الزمن القادم، فمن يكتبها؟ ومن يرويها حتى النهاية؟ .
مفلح العدوان الأديب المسكون بوصايا آلهة الجمال والنار، تعيش في داخله حكايات القرى التي لم يسمعها من قبل، فيشده صوت آت من أعماق التاريخ، يراود حلمه الذي كان يراه في منامه منذ آلاف السنين، فيحمل كل ما لديه من شوق وتوق ليجوب القرى من شمالها إلى جنوبها حاملاً مشاعل معتمة من ماض سحيق يستنطق البيوت والجبال والأودية والحجارة المتهدمة والناس الذين كانوا يرون في حكاياتهم ضربا من الخرافة والخيال، ويقولونها- إن قالوها- على استحياء، وإذا بهم يتفاجأون أن كل ما يقولونه يلتقطه مفلح ليصنع منه حقيقة وأملاً، كان الزمان قد لفه بحجب الأيام حتى صار نسياً منسياً. فها هو يقول تحت عنوان : فسحة للروح

 نطرق أبواب القرى..

ولعل البعض منا، أخذته ماكنة الحياة، فما عاد يعرف تفاصيل باب بيت مدينته التي فيها يعيش، فكيف يكون لديه الوقت لأن يتتبع تفاصيل تلك الأبواب المتمناة، والتي تنتظرنا هناك في كل قرية على امتداد الوطن من تصوّف الشمال إلى حكمة الجنوب، ومن فراسة الشرق إلى قداسة الغرب فيه.
نطرق الأبواب.. ولا بأس من فسحة أن نعيد أرواحنا إلى حضن قرانا، ولو مرة في العمر، بعد كل هذا الغياب عنها، وهنا حديث فيه شجن، حتى لأولئك الذين يسكنون القرى، ولكنهم غائبون عنها، في خضم تسارع الحياة التي أخذت تغزو هدوء قرانا، وتلتهم بعضا من سكينتها، ووداعتها، لذا صار بعض أهل قرانا، هو البعيد القريب عن قريته حتى وهو مقيم فيها.
 إنها فرصة هنا لأن يلتفت الواحد منا/ منهم إلى هدوء بيته، وتفاصيل بابه، وطيبة جيرانه، وذلك التاريخ المسكون في الدرب المؤدي إلى عين الماء، والدكان، والمقبرة، وتلك التلة التي لم يمش نحوها منذ زمن، فيها هدوء الكون كله، ولكنه غائب عنها.
لقد أثار مفلح بوداعته واقترابه بوحاً كان غائباً في تفاصيل القصة وأزقة الشوارع المهجورة والقرى المهاجرة والذاكرة المسافرة، لتمنحه إحساساً بالدفء فيصنع منه تاريخاً مشرقاً، ويسطر بخطوطه حدوداً جغرافية مليئة بالأسرار.
بوح القرى كتاب تزاوجَ فيه التاريخ مع الأدب والحقيقة مع الخيال، والمقدس مع الدنيوي والغائب مع الحاضر، فكان تأريخا للوقائع والأشخاص والعشائر والأرض، إنه توثيق تاريخي بطريقة علمية موضوعية حين كان مفلح يرتحل عبر القرى، يعاين الأمكنة عن قرب، ويدون تاريخها من أفواه أصحابها، ويترك الحارات والشوارع والجدران والكهوف والآثار تنطق بالصورة في عدسة (كاميراته) التي تتنقل هنا وهناك ترصد اللحظة الغائبة واللحظة الحاضرة واللحظة العابرة . فيقول : نطرق أبواب القرى.. 
نعود إلى حضنها؛ هي حلم باتت للبعض، وأمنية للبعض الآخر، وذاكرة لمجاميع ثالثة، ومفتقدة عند مجاميع أخرى، ولكنها تبقى، تراوح بين المساحة المتاحة، والمساحات المتأملة، أو المرتجاة.
وهناك، في تلك الأماكن/ القرى، يكون للباب، أو للأبواب، بوح آخر، وفيه مراوحة بين البعد المادي، والبعد الروحي للأبواب، حيث كان دخول القرى، بوحا، وذاكرة، وواقع حال مرة من خلال باب الحوش، ومرات نعبرها وقت الأذان من باب الجامع، أو وقت قرع الأجراس من باب الكنيسة.
 ليس هذا فقط، فذات قرية فاجأني دليلي بباب كهف محفور على جوانبه هلال وصليب وأغنية للمارين من هناك، وفي زيارة أخرى طرقنا باب بيت المختار، ولما ضاقت بنا الذاكرة لم نكن نلجأ إلا إلى باب بيت الجدة، أو كهل الأمكنة ليقول لنا ما نريد من تاريخ تلك الأمكنة..
 وهو كتاب في الأدب.. إنه نص مكثف يحمل بداخله الرمز والصورة والأسطورة، معلناً أن التاريخ حكاية جميلة أبطالها ليسوا من سراب، بل هم الينابيع التي تروي ظمأ العطشى للاعتزاز بالمكان والثقة بالتاريخ، واستحضار (الأنا) في مواجهة التهميش والهجر، وهو فوق ذلك مصدر لعلم الأنثروبيولوجيا من خلال تصوير حياة الناس ومصادرهم الاقتصادية وطرق عيشهم وطعامهم وطرق ريّهم وأدواتهم، وهو كذلك يقدم جانباً من علم الميثولوجيا من خلال الحكايات المبنية على بقايا الأساطير، ثم هو أيضاً يقدم إشارات لتاريخ الأديان والتدين حين يتحدث عن المقدس والمقامات وقبور الأولياء وطرق العبادة. يقول : الضفة الشرقية من نهر الأردن شهدت كل هذا.. 
وبالتحديد قريبا من قرية الكفرين، حيث في إطارها يقع المغطس الذي كان حاضرا على ذلك الصعود، وكان مراقبا بعد ذلك جنود هيرودس عندما اقتادوا يوحنا المعمدان إلى قلعة مكاور في مأدبا، هي قرية أخرى، تشهد على عظمة الحدث، ليسجن، ثم تتم بحقه أبشع جريمة يتحملها نبي حين قدّم هيرودس رأس يوحنا إلى سالومي على طبق من ذهب بعد وعد مشؤوم لها، عندما رقصت أمامه في عيد ميلاده، وطالبته بقتل النبي، فرضخ لتبعات وعده، وارتكب جريمته.
في  كل جزء من (موسوعة القرية الأردنية – بوح القرى) يوثق مفلح العدوان ثلاثين قرية، يسميها باسمها المعروف، اسمها الحديث، ويتبعه بوصف سيميائي، يوحي بقصة قديمة أو تاريخ مهجور أو صفة غالبة أو أسطورة متوارثة، ولقد جاءت تلك الأسماء بصفات وإيحاءات رمزية غنية بالدلالات والرموز فتثير في النفس حنيناً للماضي أو اعتزازاً بالتاريخ أو ثقة بالمكان، ومن الأمثلة على ذلك 
الجيزة.. وريثة (زيزياء) 
الحسينية.. استقرار بعد ترحال
دبين.. تحت ظلال (الهدأة)
ذنيبه.. الحياة مرة أخرى!!
سوف: جارة «جراسا» 
 ولذا تحولت الحكايات والقصص التي كانت تروى في المجالس والمسامرات منذ زمن بعيد تحولت إلى نصوص ذات أهمية، وهكذا وظيفة الأدب حين يعمق الولاء للأرض ويشد الإنسان أعماق المكان والاتصال بالتاريخ بوصفه امتدادا للحاضر ودافعاً للمستقبل. 
إن من أهم مميزات بوح القرى أنه لم يقف عند حدود التاريخ والتزامه بذكر الوقائع والأحداث، كما أنه لم يتقيد بالطريقة الأكاديمية في توثيق الأماكن، لكنه خلط بينها وبين الاهتمام بالتاريخ الشفوي المحكي، التاريخ غير المكتوب، الذي يتناقله الناس في القرى والبلدات ويشكل جزءا من وعيهم بوجودهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وأخلاقهم، فيذكر حكايات الغزو والصراعات القبلية وهجرات ( الجلوة) والهروب والكر والفر، والحيل والمكر والدهاء، وقصص النساء والغراميات، وتقلبات الزمن والطبيعة وما فيهما من هلاك وخراب ودمار وازدهار وعودة وخصب، وتلك هي دورة الحياة ودورة الأرض، ودورة الإنسان على مدى الزمن.
يبدأ توثيق القرية بنص تاريخي أدبي يعرج من خلاله على ذكر الأماكن وما دار فيها من أحداث ويستنطق أصحابها ليروي على ألسنتهم ما يعتقدون أنه يشكل تاريخهم وحضارتهم، ويذكر أحياناً بلغتهم، ولذا نرى تنوعا في طريقة الخطاب من قرية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، مما يشكل مرجعاً لدراسة اللهجات وطرق الخطاب، ويمر التوثيق بقصص هنا وهناك يعاين مشاهد الحياة التي يعيشها الناس، ويسجل بوح همومهم وآمالهم وتطلعاتهم ومعاناتهم، وأحياناً يتدخل الكاتب في توجيه النص وفي أحيان أخرى يتركه يتحدث عن نفسه بأقصى درجات الكشف الداخلي، وهذا الكشف هو الذي يشكل باعتقادي أهم جانب من جوانب البوح الذي كان يبحث عنه مفلح في عمله. فيقول مستهلا حديثه في جانب آخر :
سأبتعد قليلا عن قرى الماء..
أيمم وجهي شطر قرى أخرى، هي حتما ستفتح لي أبوابها، وتستقبلني بالـ(ياهلا)المعروفة في الريف والبادية.. 
فليكن هذا إذن.. سألقي التحية، وأرتحل عميقا في الأمكنة، فهذا مقام الاستذكار لكل المعاني والدلالات لتلك القرى، وهنا سيكون طَرق آخر على باب الرمل، حيث امتداد قرى أخرى، نحبها، ونحس بالطيبة فيها؛ هناك على تخوم الصحراء، وبها ذاكرة الامتداد المسكون بالتراب البكر الذي ضم في جنباته أسفار تاريخ الثموديين، والمؤابيين، وكان قادرا على صياغة جزء من تاريخ المنطقة عندما حضن مدنا كانت حواضر امتدت بعد ذلك لتطال الحضارات القادمة الأخرى، كما احتوى بحكمة صمته تداعيات الخلافة الإسلامية كأنه يشكل عمقا بيئيا ومعنويا لنسيج الوفاق أو الخلاف في الحجاز.
هناك حيث مثلث العمق الإسلامي، ومفاصل ذلك التاريخ المنسوج بين ثلاث قرى هي مؤتة، وأذرح، والحميمة، ولا بد من التوقف عندها حين تكون كتابة تاريخ المنطقة، وليس الأردن وحده، ففي مؤتة  كانت المواجهة الأولى الكبرى مع الروم، ومفتتح إظهار القوة الإسلامية زمن الرسول، في واحدة من الأحداث المفصلية في التاريخ الإسلامي، مع كل التداعيات التي تناولتها كتب التاريخ، وشكلت مدماكا أوليا على طريق الفتوحات الإسلامية.
وبعد النص الذي كان يبتغي الكشف يختم الحديث بما يسميه ( سيرة القرية)  وفيه يذكر الحدود الجغرافية والموقع، والديموغرافيا، والتربية والتعليم، فيذكر عدد المدارس وأسماءها ورياض الأطفال، ثم يذكر ما يتعلق بالجانب الصحي، وبعد ذلك المياه ومرافق المجتمع المدني من جمعبات ونواد وهيئات رسمية وخاصة . (الراي)




عدد المشاهدات : (15070)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :