.. والثـــاني صــالح بشــير !!


قبل ان نُكفكف دموع الحزن على الطيب صالح ، الذي خلَّف للعرب إبداعاً روائياً لا يقل عن الإبداع الذي تركه لهم أبو الطيب المتنبي شعراً خالداً كنثر اللؤلؤ ، فُجِعْنا نحن الذين نعرف صالح بشير بأنه رحل بهدوء وصمت بعد رحلة منافي طويلة مرهقة وأن زاويته الإسبوعية الوقورة مثله في صحيفة « الحياة » قد شغلها زميل جميع الكتاب والصحافيين حازم صاغية لينعيه بكلام صادر من القلب : « ومن بالغ الصعوبة ان تجده في صورة أو ان تعثر له على رسم .. برحيله تخسر الكلمة الدقيقة المـُفكرِّة أحد أبرز أسيادها .. فقد سقط أخيراً أرستقراطي التعبير الرفيع القــول الذي لم يهبط مرة الى الإبتذال أو الرخص أو الشعبوية متمسكاً بكتابته الصعبة » .

تزاملت مع الطيب صالح في مجلة « المجلة » التي إحتل صفحتها الأخيرة لأعوام عدة فأخذت قراءتها تبدأ بهذه الصفحة وحضرت في نهايات ثمانينات القرن الماضي جلسة شارك فيها هذا السوداني الطيب كأهل السودان كلهم يوسف الخال وأدونيس ونزار قباني وكانت من أمتع جلسات العمر وكان مكانها مطعم إيطالي يقابل المبنى الرئيسي لـ « الماسونية » العالمية في شارع يقع في منطقة « كوفن غاردن » في لندن على بعد « مَقْرط » عصا من « البوُشْ هاوس » حيث المقر السابق للـ « بي.بي. سي » هيئة الإذاعة البريطانية .

كغيري قرأت معظم روايات الطيب صالح وبقيت ألتقيه كلما زار لندن وسنحت الظروف وكغيري تأثرت كثيراً بـ « موسم الهجرة الى الشمال » فأنا بدوري كنت مهاجراً الى الشمال وأنا بدوري توقفت في عواصم كثيرة وتخــرجت من بيروت التي كان عنوانها مقهى « الدولتشا فيتا » و « مطعم فيصل » مقابل البوابة الرئيسية للجامعة الأميركية التي خرجت معظم رموز الحركة القومية في خمسينات القرن الماضي .

عندما قرأت نبأ رحيل صالح بشير الذي زاملته لبضعة أعوام في جريدة بيروتية ، رغم أنها كانت تعتبر نفسها يسارية وقومية إلا أنها إنتهت طائفية وللأسف ، تذكرت ان هناك إثنين مــن « التوانسة » الذين عرفتهم وتعرفت عليهم في مشوار المنافي الطويل هما : العفيف الأخضر والصافي سعيد وهذان يختلفان عن هذا الزميل الذي إفتقدته الصحافة العربية في أنه بسيط وهاديء بينما كل واحد منهما يتنافس تنافساً شديداً مع الآخر صخباً وحبّاً للجدل والإختلاف والمناكفة .

في السنوات الأولى لعقد السبعينات جاءني العفيف الأخضر ، وكان قد طوى صفحة علاقاته بالمقاومة الفسطينية وتحديداً بالجبهة الديموقراطية وأصبح أكثر إنتماءً لـ « التروتسكيين » واليسار الفرنسي الفوضوي ، ببيان موجهٍ للعمال الإسرائيليين يدعوهم فيه الى الثورة على النظام العنصري الإسرائيلي والى وضع أيديهم في أيدي العمال الفلسطينيين والعرب ليحققوا مع عمال العالم حلم كل « كادحي » الكرة الأرضية .

لم أستطع نشر ذلك البيان الرسالة رغم أنني في حقيقة الأمر إقتنعت بما إحتواه ورغم أنني كنت قد أصبحت متحمساً لجدوى القتال الفكري على الجبهة الإسرائيلية الداخلية فبيروت في تلك المـــرحلة كانت متخمة بظاهرة الكفاح المسلح وكان من غير الممكن ان يكون هناك « عقلاني » بجرأة العفيف الأخضر الذي ينطبق عليه قول المتنبي ولا زال : والجود يُفقر والإقدام قتَّال جاء الصافي سعيد الى عمَّان في منتصف تسعينات القرن الماضي وبعد إلحاح وافقته على أن أبذل كل جهدي لإقناع محمد رسول الكيلاني رحمه الله بأن يجري معه مقابلة تلفزيونية تتعلق بتجربته الغنية وبمعايشته كمسؤول أمني ولأدقِّ مرحلة تعرض فيها الأردن للأخطار والمؤامرات ولقد أفلحت في إقناع أبو العبد بما طلبه هذا الصديق العزيز رغم أن من عادته أنه يشك في كل شيء وأنه لا يفتح كل قلبه لأي كان .. وحقيقة أنني أسفت شديد الأسف على ما قمت به فهذا اللقاء لايزال مصيره مجهولاً ولم أعد أعرف أي شيء عن الصافي ولا عن أين إنتهى به المطاف وهذا يجعلني أجدد الإعتذار للراحل الكبير الذي كرس حياته للدفاع عن هذا الوطن وللذود عن هذا الكيان الذي صمد في وجه عواصف هوجاء كثيرة .




عدد المشاهدات : (1922)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :