الطـريـق الشـائك نحـو الإصــلاح


عوامل كثيرة تتجمع وتشكل حالة ضاغطة للتقدم خطوات على طريق الاصلاح السياسي. فبالاضافة للعوامل الداخلية والرغبة الملكية في تجديد دم النظام وعصرنة اساليب الحكم، هناك عوامل خارجية تدفع بالسير في هذا الاتجاه.

 يبدو ان مشهد المسيرات الشعبية الحاشدة، التي انطلقت في مختلف مدن ومناطق المملكة، تنديدا بالحرب الاجرامية على غزة ، قد فتح العيون والعقول، على « التشوهات » و « الاختلالات » التي تعتري الحركة الشعبية، إذ بدت وكأنها مخطوفة من تيار سياسي بعينه. فعلى الرغم من تعدد ألوان الرايات الفرعية ، فإنّ الراية الخضراء طغت شكلا ومضمونا وادارة وتوجيها.

حدث هذا مع أن كل الاردنيين على اختلاف اطيافهم السياسية هبوا لنصرة غزة واهلها، و « الدولة » تحركت بفاعلية ضمن الممكن في نفس الاتجاه ، لكن القطاف السياسي صب في طاحونة المعارضة الاسلامية، التي اندفعت من دون قيود لاستثمار الحالة السياسية الناشئة.

هذا المشهد « الأخضر » كشف عن عمق الازمة السياسية البنيوية للحركة الشعبية، وضعف الحضور المنظم والفاعل لألوان الطيف السياسي والاجتماعي الاخرى، وبشكل خاص القاعدة السياسية والاجتماعية التي يستند اليها الحكم.

هذا المشهد كشف، ايضا، عن الضرورة الكبيرة لإصلاح سياسي يستجيب الى الحاجة لتطوير وعصرنة اساليب وادوات الحكم ، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع حاضر ومستقبل الوطن.

وهذه دعوة قديمة- جديدة. نادى بها جلالة الملك، لكنها كانت تصطدم دائما بالأدوات والروافع المؤهلة لحملها بصدق وامانة. فالإدارة السياسية المحافظة ظلت تضع العصي في دواليب كل المبادرات والهيئات واللجان التي شكلها الملك لهذه الغاية.

اليوم، ترشح معلومات وتظهر مؤشرات على ان موضوع الاصلاح السياسي والاجتماعي يحظى باهتمام استثنائي من الملك « والادارة السياسية » العليا للدولة. وسوف تشهد الايام القادمة اجتماعات مصغرة تشترك فيها دوائر صنع القرار للبحث في الخطوات والاجراءات الملموسة التي يمكن القيام بها. ورئيس الحكومة نادر الذهبي يتحدث في لقاءاته عن توجه جاد وسريع لولوج برنامج جاد للاصلاح والتنمية السياسية.

عوامل كثيرة تتجمع وتشكل حالة ضاغطة للتقدم خطوات على طريق الاصلاح السياسي. فبالاضافة للعوامل الداخلية، التي أشرنا إليها والرغبة الملكية في تجديد دم النظام وعصرنة اساليب الحكم، هناك عوامل خارجية تدفع بالسير في هذا الاتجاه.

فالرئاسة الاميركية الجديدة، ممثلة بالرئيس اوباما، ترسل اشارات قوية عن رغبتها في دعم الاصلاح في المنطقة والتعامل مع الانظمة المنفتحة ، والاردن يحتاج الى الدعم السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة ويطمح في كسب ود وتعاطف اوباما لتحقيق الاهداف السياسية والاقتصادية المرجوة.

كما أن انسداد أفق حل الدولتين، بسبب صعود اليمين الاسرائيلي الرافض لهذا الحل، يجعل الأردن قلقا على مستقبل القضية الفلسطينية التي تهددها الحلول التصفوية ، التي ستلقي بظلالها السالبة على الاردن، مما يتوجب العمل على تمتين الجبهة الداخلية واستنهاض قواها الاجتماعية والسياسية لمواجهة الاخطار السياسية الناجمة عن غياب حل الدولتين، وهو الحل الذي يحقق المصالح الوطنية العليا للاردنيين والفلسطينيين على حد سواء. وليس هناك طريقة انجح لتمتين الجبهة الداخلية أكثر من تحقيق المشاركة الشعبية والادارة الديمقراطية للدولة.

الاندفاعة الحكومية للحديث عن الإصلاح السياسي تبدو هذه المرة جدية، لكن ليس واضحا حتى الآن، مدى ونوعية هذا الإصلاح والملفات التي سيطالها وآلية العمل لتحقيقها.

ما يعزز تفاؤلنا في جدية الحكومة هذه المرة المتغيرات التي حصلت على « الإدارة السياسية » للطبقة الحاكمة ، وغياب التجاذبات الحادة عنها لصالح التفكير برأس بارد ومن دون تشنجات وفيتوات واحكام مسبقة وحسابات قصيرة النظر ليست معزولة عن صراع المصالح والنفوذ.

تجربة السنين والحكومات السابقة مع الاصلاح السياسي او التنمية السياسية كانت تجد مقاومة وفيتوات وعملا مضادا من مراكز قوى، وكانت جهود اللجان والهيئات الوطنية، التي تشكلت لهذه الغاية، ملهاة تعكس محاولة التحايل على الرغبة الملكية.

من السذاجة السياسية أن يقال بأن خطوات الاصلاح ومضامينه ستحدد بالاتفاق مع الاحزاب والقوى والتيارات السياسية القائمة الآن، ببساطة لأنها لا تعبر عن حقيقة الواقع ومكنوناته. فإذا ما استثنينا الحركة الاسلامية، فإننا امام نخب سياسية معزولة عن واقعها الاجتماعي، ولا يوجد من بينها من يمثل سياسيا واجتماعيا القاعدة الواسعة للحكم.

اذا كانت حكومة الذهبي جادة في السير قدما في ملف الاصلاح السياسي ، فعليها ان تقرر بالتشاور مع « الادارة السياسية » ماذا تريد هي اولا ، وتفتح حوارا مع الاخرين على ماذا تريد ، لا على ماذا يريده الاخرون.

الحوار الوطني ليس حوارا اكاديميا او نظريا مجردا، انه بالمضمون حوار مصالح واهداف بين قوى اجتماعية وتعبيراتها السياسية. ومخرجات الحوار يجب ان تكون ترجمة للتوازنات الداخلية وتعبيرا عنها، تجنباً للفشل الذي منيت به اللجان والهيئات، التي تشكلت لغايات التوافق على مسار الاصلاح، إذ لم تكن تعكس حقيقة التوازنات الداخلية، بل كانت اقرب الى تجميع لنخب تقرأ الواقع من دفتر انحيازاتها السياسية والفكرية والاكاديمية، وجاءت توصياتها نظرية من حيث الشكل والمضمون، وبلا آليات عمل او محددات زمنية، تماما مثل ورشات العمل التي نظمتها مراكز الابحاث والدراسات التي يصعب احصاؤها من كثرتها.

لذلك كان من السهل تجاوز توصيات اللجان والهيئات ووضعها على الرف، وتتحول الي توصيات يتيمة لا تجد من يتبناها ويعمل من اجلها في اوساط الطبقة السياسية الحاكمة.

حكومة الذهبي تنبهت الى هذا المحذور. فلأول مرة نسمع حديثا عن التوافق مع البرلمان على خطوات الاصلاح ومراجعة التشريعات ذات العلاقة، فلم نكن نسمع في السابق مثل هذه الدعوة، بل كان يتم تجاوز الحديث عن المؤسسة التشريعية ، لذلك كنا نجد البرلمان عضوا فاعلا في جبهة « الممانعة » وكان النواب يستهزئون في العملية برمتها ويتوعدون بإفشالها. كذلك لم تجد التوصيات العتيدة من يدافع عنها او يطالب بها او يسائل الحكومة عن مصيرها، سوى افراد قلائل يضمّنون كلماتهم جملا عابرة عنها ، لغايات التجميل والنقد والتمايز.

البرلمان ليس مؤسسة ثانوية، يمكن تجاوزها، في شأن الاصلاح مهما كان حجم الوصاية عليه، فهو في هذه الحالة يمثل قوى اجتماعية اساسية، لا يمكن ان تتخلى عن دورها ومصالحها.

فإشراك البرلمان في الحوار والتوافق امر اساسي يجعل من مسار الاصلاح اكثر سلاسة وواقعية، ويضم البرلمان في غرفتيه « الاعيان والنواب » ممثلين حقيقيين عن اتجاهات ساسية وقوى اجتماعية غير منظمة وبلا عنوان واضح لدعوته الى الحوار، وهي اتجاهات وقوى تحسب على قاعدة الحكم التاريخية وعلى الاغلبية الصامتة. وموقفها من خارطة الطريق للاصلاح ، سيكون مؤثرا وحاسما الى حد بعيد.

لن تكون مهمة الاصلاح سهلة امام حكومة الذهبي ، كما يظن البعض ، بل ستكون مهمة شائكة ، تتطلب الصبر وطول البال والتشاور ، فالحوار او جلسات الاستماع التي ستقوم بها الحكومة ستكون جلسات استعراض ومطالب بالحد الاقصى ، وعليها ان تبني « التوافق » الذي تريد ، لأن الاجماع امر صعب المنال.

فالمعارضة الاسلامية وحلفاؤها يطلبون الانفتاح والاصلاح السياسي الشامل، وعلى كل المسارات وفي كل التشريعات الناظمة للعمل السياسي وفي آن واحد، في المقابل ، لن تجد مثل هذا الحماس عند اركان الطبقة السياسية الحاكمة ، فهي تفكر بالمرحلية وسوف يغلف الحذر سلوكها ومواقفها ، وليس من بين صفوفها من يحمل تصورا واضحا لما ينبغي عمله ، بما في ذلك الدوائر الاكثر تماسا والتصاقا وتؤثرا بمخرجات الاصلاح ، وهذه مشكلة اخرى ستواجه الحكومة, وتصعب من مهمتها.

وللانصاف فإن الباشا عبد الهادي المجالي هو الوحيد ربما الذي يتحدث في تصور واضح ويعرف جيدا ماذا يريد ، وسيكون لنا وقفة مع افكار « الباشا » في مقال لاحق.

لا يكفي بعد اليوم الحديث العام عن الاصلاح او التشكيك في النوايا ، فعلى الجميع ملاقاة الدعوة الحكومية للانفتاح والتشاور ، بقلب وعقل منفتحين ، لعلنا نصل الى اوسع قاعدة توافق ممكنة ، ونتوافق على خارطة اردنية لطريق الاصلاح ، بما يجنبنا الخضات والقفزات في الهواء. فلم يعد مقبولا ان نظل نتكلم على مختلف المستويات ، بأهمية وضرور ، الاصلاح ، من دون ان نتقدم خطوة واحدة في اتجاهه.

[email protected]




عدد المشاهدات : (1688)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :