ها قد أصبحنا نعرف ، أن أهلاً وسهلاً بالفارسية معناها: "خوش آمديد" ، والفضل في ذلك عائد للحفاوة الفائضة التي قوبل بها الرئيس الإيراني في زيارته الأولى للعاصمة اللبنانية ، تلك الحفاوة التي بالغت حركة أمل وحزب الله وفريق الثامن من آذار في إظهارها ، رداً على محاولات الفريق الآخر 14( آذار) تعطيل الزيارة ، وإثقالها بما لا تحتمل من دوافع ونتائج وارتدادات ، بل والنظر إليها كما لو كانت عدواناً إيرانياً سافراً على الأمن والسيادة اللبنانيين.
السجال حول زيارة نجاد لبيروت ، لم يبق في الأطر المحلية ، بل سبقته وصاحبته ، تدخّلات إقليمية ودولية ، إسرائيل رأت في الزيارة "تهديدا" لأمنها إذ تكرس "حلف الأشرار" ، وواشنطن حذرت من الضرر الذي قد يصيب أمن المنطقة واستقرارها جرائها ، أما صحف الاعتدال العربي ، فقد غمزت ولمزت نيابة عن عواصمها ، من الزيارة والزائر ، في حين حاول الرئيس الإيراني تبديد قلق الإقليم بسلسلة من الاتصالات الهاتفية الاستباقية التي أجراها مع بعض القادة العرب.
ومن أجل البرهنة على أن زيارة الرئيس الإيراني للبناني ، تختلف عن زيارات كثيرة قام بها قادة عرب وأجانب لهذا البلد المنكوب بانقسامات أبنائه وحروبهم وحروب الآخرين عليه ، ظهر الرئيس أحمدي نجاد في هيأة "بابا نويل" ، فهو أودع ما يقرب من نصف مليار دولار بتصرف اللبنانيين لتغطية عقود الطاقة والاتفاقات الثنائية التي ستبرم في حضوره أو على شرف زيارته ، وهو قدم وعوداً لدعم لبنان في شتى المجالات ، من النفط والطاقة والكهرباء حتى العتاد والسلاح للجيش اللبناني ، من دون أن ينسى إطلاق التأكيدات المتكررة بأن إيران تدعم لبنان وجميع اللبنانيين ، وليس طائفة بعينها أو فريق على حساب آخر.
في ظني ، أن زيارة الرئيس أحمدي نجاد للبنان لن تغيّر أو تبدّل في مواقف اللبنانيين ومشاعرهم واصطفافاتهم ، حتى ولو جاءهم بالكهرباء 24 ـ 24 كما يقال في لبنان عادة ، أو ملأ مستودعات جيشهم بالمدافع والدبابات والصواريخ ، ففي الوقت الذي يتطلع فيه اللبنانيون الشيعة إلى الزيارة من منظور روحي وعاطفي ومصلحي ، يوثّق روابطهم الخاصة مع "مركز الشيعة العالمي" ، فإن اللبنانيين السنة (غالبيتهم على الأقل) ، ينظرون للزيارة من زاوية "الانشطار المذهبي" الذي يطاول الإقليم وصولا إلى أفغانستان والباكستان ، أما الموارنة فإن مواقفهم من الزيارة سياسية بامتياز ، فمسيحو 14 آذار كارهون للزيارة والزائر أكثر مما يفعل أشد السلفيين عداوة للشيعة "الروافض" ، فيما مسيحو الثامن منه ، يرون فيها زيارة رئيس دولة صديقة وجارة ، يمكن للعلاقة معها أن تكون مفيدة للبنان.
والحقيقة أن تزامن زيارة نجاد لبيروت مع زيارة ثانية لا تقل أهمية ، يقوم بها نوري المالكي لدمشق ، تظهر تعاظم الدور الذي يضطلع به محور طهران - دمشق في المنطقة ، فالمالكي كان لا بد له من المرور بدمشق بعد طهران ، للحصول على الضوء الأخضر لتشكيل الحكومة ، وزيارة نجاد لبيروت تريد البرهنة أن للمحور السوري الإيراني دوراً في لبنان لا يقل أهمية عن "معادلة س - س" التي أطلقها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في إشارة للعلاقة السورية - السعودية.
لا أحسب أن زيارة نجاد ستَجُبّ آثار التوافق السعودي - السوري في لبنان ، أو أنها ستمحو نتائج الزيارة المشتركة التي قام بها لبيروت كل من الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشار الأسد ، لكنها بلا شك ، ستعزز نفوذ "المكون السوري" في هذه "معادلة س - س" ، لا سيما بعد دخول مصر بقوة على خط الأزمة اللبنانية ، منفردة حيناً ومن بوابة السعودية أحياناً ، في محاولة لإنقاذ ما أسمي بـ"ثورة الأرز" ، وفي مسعى مستميت لإبعاد الرياض عن دمشق ، حتى وإن كان الثمن ، استضافة سمير جعجع بما يمثل ومن يمثل ، في القصر الجمهوري في القاهرة.
إن زيارة المالكي لدمشق ، وزيارة نجاد لبيروت ، تؤكدان فشل المسعى السعودي لإبعاد سوريا عن إيران ، وتبرهنان على أن دمشق تريد جمع كل هذه الأطراف والعلاقات والمصالح المتشابكة في سلة واحدة ، تماماً كما ظلت تفعل على امتداد العقود الثلاثة الماضية ، وستجد الرياض نفسها مضطرة إما للتراجع خطوة أو خطوات للوراء في علاقاتها مع سوريا ، أو العودة لما كانت عليه سياستها في ثمانينييات وتسعينييات القرن الفائت ، عندما كانت تحتفظ بعلاقة طيبة مع دمشق ، من دون أن تكون علاقة الأخيرة بطهران سبباً في التأزم والقطيعة...حتى الآن لا يبدو أن الدبلوماسية السعودية قد حسمت وجهتها ، فهي تعطي إشارات متناقضة وفي اتجاهات مختلفة ، ويقال أن العلاقة مع سوريا وإيران ، واستتباعا الموقف من الملف اللبناني بمجمله ، قد تحوّل إلى مصدر خلاف بين الخارجية السعودية ووزيرها المخضرم الأمير سعود الفيصل من جهة والأمير الشاب عبد العزيز بن عبد الله الذي اضطلع مؤخراً بدور متزايد في تحسين العلاقة السعودية - السورية وإدارة الملف اللبناني نيابة عن والده خادم الحرمين ، من جهة ثانية ، ودائما على ذمة الصحافة الغربية.