لا ينبغي للبيان الصادر عن السينودس السبت الفائت ، أن يمر مرور الكرام ، ومن دون أن يتوقف عنده أحد ، كما لا ينبغي التعامل معه كما لو كان يمثل رأي فريق من الأساقفة والبطاركة والمطارنة محدود النفوذ والتأثير ، أو أنه موقف يخص طائفة بعينها ، يترك أمر التعليق عليه ، لمن ينتسبون إليها ، فالبيان الصادر عن السينودس المكرس للبحث في أوضاع أوضاع مسيحيي الشرق ، بيان بالغ الأهمية ، أولاً ، لأنه يصدر عن بطاركة وأساقفة ومطارنة ، لهم ما لهم من نفوذ وتأثير وصدقية في محافل عديدة... وثانياً ، لأنه يصدر من قلب الفاتيكان ، عاصمة "الكثلكة" العالمية... وثالثاً ، لأنه يصدر في هذا التوقيت الحساس والخطير بالذات.
على أن الأهم من كل هذا وذاك وتلك ، أن البيان حمل من المواقف و"الإرشاد الكنسي" ما يمكن الاستناد إليه في تطوير الهجوم الفلسطيني- العربي المضاد ، على "الأساطير المُؤسسة" للدولة العبرية ، فضلاً عن المواقف العدوانية والتشريعات العنصرية والإجراءات التوسعية ، التي تصدر تباعاً عن حكومة اليمين واليمين المتطرف والمستوطنين ، مدعوة برأي عام إسرائيلي ينجرف نحو التطرف و"ينزاح" نحو اليمين.
الأسطورة الأولى ، التي فنّدها بيان السينودس ، تتصل بـ"أرض الميعاد" ، الأسطورة التي اعتمدت عليها الحركة الصهيونية في تبرير وتسويق وتسويغ مشروع "الوطن القومي لليهود في فلسطين" ، فلسطين ليست وطناً قوميا لهؤلاء ، وهي ليست "وعد الرب" لبني إسرائيل ، لم تعد كذلك اليوم ، ولم تكن كذلك منذ ظهور السيد المسيح عليه السلام ، والبيان أوضح باسم مليار كاثوليكي في العام ، خلو "الأدب المسيحي" من إدعاءات كذلك ، فالأرض على اتساعها ، هي "ملكوت الرب" ، وعًدَ به بني البشر جميعاً للعيش بسلام ومحبة وعدل.
الأسطورة الثانية ، التي فنّدها بيان السينودس ، هي أسطورة "شعب الله المختار" ، حيث أكد الناطقون باسم الكنيسة الكاثوليكية ، أنه لم يعد هناك اليوم شعب مفضل أو مختار ، جميع الناس والرجال على وجه البسيطة ، هم شعب الله المختار ، وليس لليهود ميزة إضافية ، تجعلهم "شعباً أو عرقاً" متميزاً عن سائر شعوب الأرض وأعراقها ، لا هم "شعب مختار" ولا "فلسطين أرض ميعاد لهم" ، و"الكتاب المقدس" لا يمكن أن يكون ، ولا يجب أن يستخدم ، كوسيلة أو غطاء أو تبرير لقيام شعب باحتلال شعب آخر ، وانتهاك حقوقه وإنسانيته.
من هذا المنطلق العقائدي ، واستناداً إلى هذه القراءة "إلإيديولوجية" المتطورة ، دخل المطارنة والبطاركة في صميم الجدل (أو بالأحرى الصراع) المحتدم هذه الأيام حول ما يسمى "يهودية إسرائيل" ، رفضوا هذه الأطروحة جملة وتفصيلا ، ورأوا فيها انتهاكاً لحقوق شعب فلسطين ، ومصادرة لحق مليون ونصف المليون مسلم ومسيحي منهم ، يقيمون على أرضهم ، هم أصحاب البلاد الأصليين ، وهم الأولى بحقوق المواطنة.
المطارنة والبطاركة الكاثوليك الشرقيون ، حثوا المجتمع الدولي على تكثيف العمل لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ، وتمكين الشعب الفلسطيني بناء دولته السيدة المستقلة ، معيدين للأذهان المواقف المتداولة من قضايا الحل النهائي ، كما ترد عادة في بيانات الرباعية والجامعة العربية ، على أن المدقق في بيان السينودس لا بد أن يلحظ وبكل التقدير ، تركيزه على "إنهاء الاحتلال أولاً" ، باعتبار الاحتلال أصل المشكلة ، وزواله بداية الحل ، فيما يشبه "تفنيداً" غير مباشر ، للمقاربة الفلسطينية الرسمية (دولة تحت جلد الاحتلال) والعربية الرسمية (السلام المقدم على إنهاء الاحتلال).
بيان السينودس يجب أن يلقى ما يستحق من اهتمام ، وأن يجري العمل على ترويج ما جاء فيه من أفكار ومواقف ، تعيد الاعتبار لمسيحيي الشرق في كفاح شعب فلسطين من أجل الحرية والاستقلال ، وفي إبراز البعد المسيحي للقضية الفلسطينية ، بعد أن نجحت حركات الإسلام السياسي في تأكيد طغيان "البعد الإسلامي" لها في السنوات العشرين الأخيرة ، ففلسطين مهد المسيحية ووطنها الأول ، لا يمكن اختزالها بلون ديني واحد ، وها هم كاثوليك الشرق يتقدمون ببيان عقائدي وسياسي ، متقدم على مواقف وسياسات السلطة والجامعة والنظام العربي ، فهل نبدأ من التفكير باجتراح آليات واستراتيجيات لترجمة هذا البيان ، وتعظيم الإفادة منه ، وخلق الأطر ومؤسسات العمل المشترك ، الإسلامي المسيحي ، لضمان تجسيد معانيه ومراميه؟،.
بيان السينودس ، يجب أن يقرع الكثير من نواقيس الخطر في عواصمنا العربية ، المشرقية بشكل خاص ، وفي فلسطين على نحو أخص ، فلا يجوز بحال من الأحوال ، ترك ظاهرة "النزوح المسيحي" تفعل فعلها المدمر ، مفرغة المنطقة من أحد مكوناتها الأساسيين والتاريخيين ، وقد آن الأوان للتعامل مع ظاهرة تآكل الوجود المسيحي في المشرق ، بوصفها تهديداً لهوية المنطقة ومساً بصورتها التاريخية كما تكرست وانطبعت ، أقله منذ ألفي عام ، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال استمرار النظر لهذه المسألة بوصفها قضية المسيحيين وحدهم ، إنها قضيتنا جميعاً ، قضية الدولة الوطنية العربية التي أخفقت في توثيق عرى التعاقد الاجتماعي مع جميع مواطنيها.