كيف نعيش الحاضر?


رم - مقالات

جواد البشيتي


إنَّكَ لا تَنْزِل (أو تَسْبَح) في مياه النهر نفسها مرَّتين; لأنَّها جارية في استمرار; وهذا النهر الفلسفي هو "نهر هيراقليطس".

إنَّه قول من بضع كلمات للفيلسوف الإغريقي يَحْمِل في داخله "أطناناً" من المعاني; ولا أغالي إذا قُلْت إنَّه قول لا تُسْتَنْفَد معانيه.

و"النهر (أو مياه النهر الجارية)" يمكن أنْ نرى فيه ما يعيننا على فَهْم بعض من معاني "الزمن", فلسفياً وفيزيائياً وكوزمولوجياً.

النهر هو المياه التي تنبع من منبع, لتجري في مجرى, قبل أنْ تصبَّ في مصبٍّ; و"الزمن" إنَّما يشبه هذه المياه; فمنبعه (الذي لا ينضب) هو "المستقبل", ومصبه هو "الماضي", والمجرى الذي يجري فيه هو "الحاضر".

لو نزلتَ في مياه النهر فإنَّ شيئاً من مياهه الآتية من "المنبع", أو "المستقبل (في النهر الزماني)", يلامس جسمك, ثمَّ يبتعد عنه, متِّجِهاً إلى مصبِّ النهر ليصبَّ فيه; وهذه الملامسة هي كناية عن "الحاضر", الذي يجري ليصبَّ في "الماضي".

"المستقبل" هو الزمن الذي لم يصلك بعد; و"الماضي" هو الزمن الذي لن يعود إليكَ أبداً; وحده "الحاضر" هو الزمن الذي تملك; فهل تنتفع من هذا الذي تملك.. هل تعيش تلك اللحظة التي لا يمكنكَ أنْ تعيش غيرها, عيشاً واقعياً حقيقياً?

إنَّكَ لا تعيشها, ولا تنتفع منها, ولا تتأكَّد ملكيتكَ لها, إلاَّ قليلاً, وقليلاً جداً; ذلك لأنَّكَ تعيش الحاضر وأنتَ ممزَّق التفكير والشعور; فإنَّ بعضاً من تفكيركَ وشعوركَ متَّصِلٌ ب¯ "الماضي", وبعضاً منه متَّصِلٌ ب¯ "المستقبل"; مع أنَّ "الحاضر", ولجهة تفاعلك (ودرجة تفاعلكَ) معه, هو "الزمان المكان", أو "الزمكان", الذي فيه (فحسب) تُصْنَع "الحياة", أكانت حياة فرد أم حياة جماعة, ويُصْنَع "التاريخ".

نوعان من الشعور يلازمان الإنسان, ويستبدَّان به, وهو يعيش "الحاضر": شعور بالأسف والندم, وشعور بالخوف والقلق.

الشعور الأوَّل يتَّصِل ب¯ "الماضي"; والثاني يتَّصِل ب¯ "المستقبل"; فأنتَ لا تأسف وتندم على ما يتَّصِل ب¯ "المستقبل", وإنَّما على ما يتَّصِل ب¯ "الماضي"; وأنتَ لا تخاف وتقلق ممَّا يتَّصِل ب¯ "الماضي", وإنَّما ممَّا يتَّصِل ب¯ "المستقبل".

وأحسب أنَّ الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يَعْرِف هذا الشعور وذاك; فليس من حيوان يشعر بالأسف والندم على شيء من "الماضي", أو بالخوف والقلق مِمَّا يحمله إليه "المستقبل".

كيف "تَسْتَهْلِك" جزءاً كبيراً, أو الجزء الأكبر, من "حاضركَ"?

إنَّكَ تستهلكه استهلاكاً غير مُنْتِجٍ, غير مفيد, إنْ لم يكن ضاراً, فأنتَ تَسْتَنْفِد "الحاضر" بعيشٍ يهيمن عليه الشعور بالأسف والندم على ما مضى, أو/ والشعور بالخوف والقلق ممَّا لم يأتِ بعد, ويتضاءل فيه, من ثمَّ, كل شعور إيجابي لجهة تأثيره في حاضر عيشكَ.

لو جلستَ على كرسيٍّ عشر دقائق, فهل لكَ أنْ تخبرنا كيف قضيت (واستنفدت) هذا الزمن?

لقد قضيته, أو قضيت جزءاً كبيراً منه, أو الجزء الأكبر منه, وأنتَ مشغول التفكير بما مضى, أو بما لم يأتِ بعد, تشعر بالأسف والندم على حادث ما من ماضيك, وبالخوف والقلق من شيء, أو أمر, قد يأتي به إليك "المستقبل", القريب أو البعيد.

ويكفي أنْ تكون في هذه الحال من التفكير والشعور (غير السليمين, وغير المفيدين, والضارين, إذا ما استبدَّا بكَ) حتى تنقطع صلتكَ الواقعية, والفعلية, والضرورية, ب¯ "الحاضر", أي بالحياة الواقعية الحقيقية.

إنَّني لا أدعو إلى أنْ يعيش الإنسان حاضره مجرَّد النفس تماماً من هذا الشعور أو ذاك; فإنَّ شيئاً من الشعور بالأسف والندم على أمرٍ من "الماضي" هو جزء من إيجابية التجربة التي عاشها الإنسان; وينبغي لهذا الإنسان أنْ يحوِّل هذا الشعور (الذي لا إفراط فيه ولا تفريط) إلى درس وعبرة. وإنَّ شيئاً من الشعور بالخوف والقلق من أمْر يتَّصِل ب¯ "المستقبل" يجب أنْ يَحْمِل صاحبه على الاحتراز والتوقِّي والتحفُّظ.

ما أدعو إليه فحسب هو أنْ يعيش الإنسان حاضره بأكبر قدر ممكن من التفكير والشعور اللذين يُمكِّناه من التفاعل القوي مع حاضره, ومن غير أنْ يُفْرِط أو يُفرِّط في المشاعر المتَّصِلة بماضي حياته, أو بمستقبلها; وأنْ ينأى بتفكيره عن "حِكْمَةٍ" لا أثر فيها من الحِكْمَة, هي حِكْمَة "لو", فالإنسان الذي لم يُحْسِن فهم تجارب الماضي هو الذي يقول دائماً "لو عاد بي الزمن إلى الوراء (شهراً, أو شهرين, سنةً, أو سنتين) لَمَا فَعَلْتُ ذلك الذي فَعَلْت, أو لَفَعَلْتُ ما امتنعتُ عن فعله".

إنَّها "الحِكْمَة" التي ما كان له أنْ يبلغها لو لم يرتكب ذلك الخطأ; فهو بفضل خطأ ما ارتكبه في ماضيه بلغ الآن هذه "الحِكْمَة"; ولو عاد به الزمن إلى الوراء, أي إلى لحظة ارتكابه ذلك الخطأ, لارتكبه مرَّة أخرى; لأنَّ الزمن لن يعود به إلى الوراء إلاَّ ليعيده إلى الحال (الفكرية والشعورية..) التي كان عليها, والتي بسببها ارتكب الخطأ. إنَّ ابن الحاضر لن يعود إلى الماضي (على استحالة ذلك) وهو محتفظ بكل هذا الذي بفضله اكتسب صفة "ابن الحاضر".0





عدد المشاهدات : (4646)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :