طاهر المصري .. شهادة للتاريخ!

دولة السيد طاهر المصري

رم -

بقلم : شحاده أبو بقر

أخذت على نفسي عهدا أن اكتب وبما يرضي الله شيئا من تجربتي مع رجال الصف الاول الذين عملت معهم مستشارا وفي السلطتين التنفيذية والتشريعية على إمتداد خمسة وثلاثين عاما , وبدأت بطيب الذكر عبدالهادي المجالي , وبالطبع فليس ذلك من أجل هدف خاص أو هو من باب الإستعراض كما قد يتصور بعض خفاف القوم الذين لا يرحمون في هذا الزمان و" يبدعون " في سوق المبررات والتأويلات وفقا لما هو متمترس في عقولهم وحدهم من خلق الله , وإنما لغاية نزيهة يدركها بالضرورة كل صاحب عقل نزيه يقرأ ما بين السطور قبل السطور , ويدرك ان الهدف غاية عامة لا خاصة ابدا , خاصة في هذه الظروف الحساسة الصعبة التي نعيش , وسط محيط مضطرب لن يهدأ قريبا , وحتى وإن هدأ فإرتدادته الصعبة ستستمر لسنوات إن لم يكن لعقود ! .

اليوم سأعرض بعضا من تجربتي مع طيب الذكر طاهر المصري , والذي تخطى الجميع تقريبا في توليه لسائر المناصب القيادية الاولى في الدولة الاردنية , وكان حتى منتصف العام الحالي 2016 الأطول إشغالا زمنيا لمنصب وزير الخارجية , إلى أن تخطاه وزيرها الحالي ناصر جوده في تموز الماضي متجاوزا فترة سبع سنوات .

يقضي العرف الإداري القانوني عند حل مجلس النواب تمهيدا لإنتخابات جديدة , أن يصبح المجلس تابعا إداريا لرئيس مجلس الاعيان إلى حين إنتخاب المجلس الجديد . حدث هذا مرتين خلال عملي مستشارا لرئيس مجلس النواب , الأولى إبان كان رجل الدولة الكبير والخبير زيد الرفاعي رئيسا لمجلس الاعيان , والثانية إبان كان رجل الدولة الكبير والخبير كذلك طاهر المصري رئيسا للمجلس ذاته .

ولمقتضيات اللياقة الوظيفية زرت الرئيس الرفاعي في مكتبه في المرة الاولى , وقلت أنني وبحكم تساوي درجتي مع درجة الامين العام لمجلس النواب فكلانا مرتبط إداريا بدولتك حاليا , فماذا تريدني أن أعمل ! , قال بذهنية رجل الدولة الكبير , نحن لدينا في مجلس الاعيان نقص في مجال عملك , وإنتخابات النواب باتت وشيكة , وسأطلب من الرئيس الجديد ابي سهل او غيره نقلك إلينا هنا في مجلس الاعيان فنحن بحاجة إلى عملك , شكرت دولته وقلت يشرفني ذلك .

لم اكن على علاقة قرب مع دولته فلم أعمل معه من قبل , لكنني أحمل إنطباعا عاما بان الرجل سياسي محنك ويتوفر على قدر عال من الخبرة وإخلاص نادر في المثل للوطن وللعرش , لا بل وأضيف أنه قد ظلم في حقبة ما وهجر السياسة وأختار الزراعة في الأغوار , ولم يدافع ضد الظلم والمغالطات لا بل آثر الصمت وغلب الحكمة على سواها , وأنا على يقين أنه قد فعل هذا منعا للجدل وصونا للمصالح الوطنية تاركا للأيام والاحداث أن تتحدث , حتى جاءت الفرصة وأعاد الحسين رحمه الله إليه إعتباره , ولا أنسى كيف كان بعض من هاجموه وحملوه المسؤولية يتقاطرون على مكتبه مهنئين بثقة الملك منذ اليوم الاول لتعيينه رئيسا لمجلس الأعيان , لا بل وطالبين الإفادة من خبرته السياسية والبرلمانية وبصورة ملحوظة جدا .

أنتخب مجلس النواب الجديد وفاز ابوسهل برئاسته , وكنت أتوقع نقلي إلى الأعيان بناء على وعد أبي سمير , مر شهران ولم يحدث شيء من ذلك , إلى ان صادفت أبا سمير في لقاء عام وأنا أعرف أنه لا ينسى ولا يخلف وعده , فلم أسأل تأدبا عما وعدني برغبة منه , ليبادرني دولته قائلا , لم أنس الأمر وفاتحت أبا سهل بنقلك عندنا إلا إنه قال أعوذ بالله انا لا أستغني عنه , وليستمر عملي مستشارا لأبي سهل حتى تم حل المجلس , ليتكرر الامر ثانية ولكن مع دولة طيب الذكر طاهر المصري هذه المرة , فقد إعتزل أبو سمير السياسة وهو الرجل الذي لا يتخلى عن رجاله , ويقدر عاليا كل من يعمل معه بإخلاص وتفان وصدق , وتلك ميزة يعرفها سائر من عملوا معه بإخلاص وكانوا أهلا للمسؤولية .

نعم , تكرر الأمر ثانية حيث عين دولة طاهر المصري رئيسا لمجلس الاعيان , وجاء فترة حل مجلس النواب , وكان علي أن أعيد الكرة ذاتها معه , طلبت لقاءه وشرحت تبعيتي الإدارية له وسألت عما إذا كان يريدني أن أستمر أم أستقيل , إستغرب عرض الإستقالة وقبل أن يعلق دخل مجموعة من الذوات الأعيان إلى مكتبه فأنقطع الحديث على أن أزوره لاحقا .

أثناء خروجي قابلت زميلا صحفيا عزيزا هو الاستاذ ماجد الامير , بادرني بالسؤال وأخبرته بالأمر , كان ماجد وما زال وسيبقى بالنسبة لي من أعز أصدقائي في زمن عز فيه الأصدقاء , فأتصل بي لاحقا يخبرني بان أبا نشأت يريد أن نذهب إليه في منزله مساء , وهكذا كان , ومن الواضح ان صديقي العزيز ماجد قد حدث ابا نشأت عني خاصة وان لا علاقة تربطني به من قبل سوى المعرفة عن بعد , وبعد حديث مطول إتفقنا على أن يتخذ أبو نشات قرارا بتكليفي للعمل في مجلس الأعيان منتدبا من مجلس النواب , وهكذا كان .

بدأت عملي مستشارا لرئيس مجلس الأعيان بإعداد تقرير سياسي اسبوعي للرئيس , وفي اليوم التالي هاتفني مدير مكتبه الخاص الشاب المثقف جدا الخلوق جدا طارق تحبسم يخبرني بان الرئيس يريدني , إعتقدت أن التقرير لم يرق له , فأنا بطبعي أكتب ما أعتقد وبالمفتوح ولا ألقي بالا لمن يرضى أو يغضب من قراء التقرير , ولهذا ظننت انه سيلومني أو سيوجهني لأمر ما , لكن المفاجأة كانت أنه قد أبدى إعجابا كبيرا بالتقرير وكتب بخط يده عليه " هذا كلام جميل جدا " , لا وأصدر أمرا للأمانة العامة للمجلس لتصويرنسخة التقرير أسبوعيا وتوزيعه على جميع الذوات الأعيان ! , وبالطبع له في ذلك هدف وحكمة لعل أبسطها هو أن يكون عضو مجلس الأعيان مطلعا على كل ما يدور في الإقليم وحتى العالم من نشاط وتصريحات ومواقف سياسية ومدى إنعكاسها على المنطقة والاردن بشكل خاص .

من هنا بدأت رحلتي عمليا مع أبي نشأت , لأتعرف اكثر على رجل دولة من طراز نادر , رجل عركته السياسة حتى أنتجت منه رجل دولة محترف , رجل له مبادئه التي لا يتخلى عنها , ومواقفه التي تنسجم مع تلك المباديء , وهو من أولئك الذين يتركون للتاريخ أن يحكم , لا يحب النفاق ولذلك يضيق ذرعا بعبارات التفخيم وسواها من عبارات لا تحمل معانيها , يطلعني على معظم إن لم يكن كل خطاباته ومحاضراته , وصرت بالنسبة له مؤتمنا تماما , أضيف وأنصحه بحذف عبارة أوعبارات هنا أو هناك , فيقتنع , ولا نختلف كثيرا أبدا , أنا أكتب بأسلوب مختلف عن أسلوبه , أسلوبي يعتمد ان تكون بداية أي خطاب سياسي , مدخلا للعاطفة قبل العقل , فالطريق إلى عقل العربي والشرقي عموما تبدأ من عاطفته التي لا بد من تهيئتها إبتداء كي يصير الوصول إلى عقله يسيرا ومؤثرا , أما هو فاكثر ميلا إلى لغة الأرقام من ناحية , وإلى الدخول في الموضوع مباشرة من ناحية , وكنت أقول له تلك هي ثقافة الغرب وأسلوبه , أما نحن فعرب وشرقيون لا بد من محاكاة عواطفنا كي تحظى بإنشداد أسماعنا لما تقول اولا , ثم مارس ذكاءك بعدها في توصيل ما تريد من فكرة ستتقبلها عقولنا , وكان جوابه , هذا صحيح , ولربما كنت انا متأثرا ببدايات عملي في البنك المركزي حيث الارقام والمعلومة المباشرة , فأجيبه ربما , لكنك اليوم رجل دولة سياسي لا رجل مال وأعمال , يقتنع فورا ويضحك ببراءة لا تكلف فيها .

أجمل وانبل ما في طاهر المصري قدرته الفائقة على إستيعاب الجميع , وتلك من أبرز سمات رجال الدولة , يفكر كما هو عبدالكريم الكباريتي وسمير الرفاعي وهاني الملقي وعبدالهادي المجالي وعدنان أبو عوده ومروان الحمود ورجائي المعشر وعبدالكريم الدغمي وطاهر حكمت وتوفيق كريشان وزياد الشويخ ومحمد الشهوان ومحمد الذويب وصديقي العزيز المهندس عبدالله أبو عليم وصديقي العزيز الشيخ ضيف لله القلاب بصوت عال ولا يلتفت حوله , والسبب هو اليقين التام من صفاء النوايا ونقاء السرائر ما دام الهدف هو المصلحة العامه .

طاهر المصري كما عرفته , عربي حتى العظم , وأردني حتى العظم , وفلسطيني حتى العظم , لا بل وإنسان حتى العظم , وبالطبع فإن مزيجا من هذا كله , ينتج بالضرورة شخصا ليس مجرد شخص عادي , وإنما شخصية متميزة لها آراء قد تبدو لأول وهلة بعيدا عن الواقع , إلا ان الاحداث وما اسرع تتابعها في زماننا هذا , تبلور سريعا وجاهة مسعاها ونبل غايتها , وأكثر من ذلك , فله وجهة نظر يهتم سياسيون عرب واجانب بإلأستماع إليها دائما , إنسجامعا مع الحضور والإمتداد السياسي الإقليمي الذي يتمتع به هو وقلة محترمة من رجال الدولة الأردنية .

طاهر رجل يساعد الجميع ولا يسأل عن أصل أو فصل ولا يمنن ,ولذلك هو يحظى بإحترام الجميع , يؤرقه كثيرا المخطط الإسرائيلي ويرى فيه خطرا على الاردن وفلسطين والعرب عموما ,وهو معجب جدا بالدور الكبير الذي يؤديه جلالة الملك على صعيد السياسة الخارجية , ويرى ان الفوضى السائدة في المنطقة لم تمنع الملك برغم قسوتها من إعلاء مكانة الاردن وحضوره الدولي أكثر وأكثر , ولولا ما يسمى بالربيع العربي , لكان شأن الاردن عالميا ودوليا شأنا مبهرا للعالم كله , وهو في المقابل يرى حتمية أن تلتفت السلطات وسائر مؤسسات الدولة وافرادها إلى الشأن الداخلي الصعب وبالذات إقتصاديا وإنعكاس ذلك بتسارع على الشأن الإجتماعي العام .
طاهر المصري ديمقراطي بلا حدود , ليس في العمل العام وحسب , وإنما في حياته الخاصة , فهو يرسل ويستقبل ولا يستهين بكلام محدثه أيا كان , وهو يرى ان نمط حياة عامة من هذا النوع , هو أفضل طريق للأوطان والمجتمعات كي تتطور وتتحد وتتحلل من مشكلاتها .

مكتبه الخاص مفتوح لكل من يريد لقاءه , يستمع للجميع ولا يقول إلا كلاما طيبا تماما , لا أنكر أنني حذرته مرة من بعض اصحاب الرؤوس الحامية الذين لا يعجبهم شيء في هذا الوجود , فيقول لا تخف علي أنا أعمق منهم كثيرا , ومواقفي وآرائي يعرفها الجميع , وانا راض عن نفسي تماما , وكل ما أتمناه هو السلامة لبلدنا العزيز هذا الذي هو أمانة في أعناقنا كلنا , ومهما اخلصنا له فنحن مقصرون , أم هؤلاء فسيأتي زمن غير بعيد يدركون فيه كم هو طيب رائع معطاء هو الاردن .

طاهر , لك من الله التوفيق وامد بعمرك وأعمار كل من هم مثلك وفاء للأوفياء وترفعا عن الصغائر والصغار , الله جل في علاه من وراء القصد.




عدد المشاهدات : (15944)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :