التآخي الديني في السلط


رم - د. موسى زيد الكيلاني
أعجبني ما ذكره الاستاذ المفكر بلال التل في جريدة الرأي يوم 21/ 8/ 2016 عن أقرب الاصدقاء لوالده وكان يدعوه « عمي ابو مروان « ليكتشف بعد سنوات ان ابا مروان كان مسيحياً, وكان الصديق المخلص الاعز لدى المرحوم حسن ارشيد التل الذي كان من قادة الحركة الاسلامية في الاردن, وكان المرحوم من ابرز دعاتها ,وعقلائها, وضحى في سبيلها بالغالي والثمين, مالاً وجهداُ ووقتاً, كما خسر مقعده البرلماني عن اربد في الانتخابات البرلمانية التي خاضها واعلنت السلطات نجاحه مبدئياً فيها, ثم تم الاعلان النهائي بفوز اخرين بدلاً منه, وذلك كجزء من الثمن المـُر الذي دفعه ابو بلال عدة مرات , بسبب توجاهاته الاسلامية, واستمر في جهاده الفكري ودعوته من خلال كتبه الاسلامية والسياسية التي زادت عن الاربعين, ومن خلال جريدته اللواء التي كانت راية للفكر الاسلامي الاصيل, حتى توفاه الله وهو على منبر الدعوة محاضراً عن اهمية توحيد المذاهب الاسلامية في عصرنا الحديث.

فكان النسيج الاجتماعي في اربد متميزاً بالتآخي بين المسلمين والمسيحيين, وقصة ابي مروان وابي بلال تجسيدٌ حيٌ على ذلك.

وذكرتني هذه القصة بما حصل في مدينة السلط اثناء الحرب العالمية الاولى, عندما انسحبت الحامية التركية من المدينة, بعد ورود اخبار عن سقوط القدس وتقدم الجيوش الاسترالية والبريطانية بقيادة الفريق ادموند اللنبي نحو السلط عن طريق « المكرفت «.

وبعد دخول البريطانيين الى السلط, مكثوا فيها شهراً ثم انسحبوا فجأة, بعد اكتشافهم عن وصول تعزيزات في الذخائر والافراد الى الجيش التركي في منطقة « زي» والمصلى وعرقوب جلعاد. ومع انسحابهم المفاجئ , انسحب معهم كثيرون من عائلات السلط, مسلمين ومسيحيين, والتي خشيت بطش الاتراك العائدين,

وساروا على الاقدام الى منطقة عين حزير حيث مقام النبي «عيزر» عليه السلام حتى وصلوا الى القدس. وقد اطلقوا على ذلك اليوم اسم يوم « الـفَــلـِـة «.

وفي يوم « الـفَــلـِـة « ذاك, جاءت عائلة مسيحية الى إمام مسجد السلط لترجوه العناية بخالهم المشلول المـُقعد الذي لا يستطيعون حمله على ظهورهم الى القدس وهم هاربون يسيرون على الاقدام. فقام الإمام المسلم بالعناية بالمشلول المقعد المسيحي يومياً, ويتعهد بنظافته, صباح مساء,وبإطعامه, ولمدة ستة اشهر حتى عاد ذووه, واستأذنوا الشيخ ليمنحهم اسمه ليطلقوه على وليدهم الجديد.

ويقول « خليل ابو الفيران « وكان من قاطني « سوق الاسكافيه « انه حرص على حماية « الحاصل « وهو مستودع السكر والرز الذي كان يمتلكه جاره جريس النبر في نفس السوق. ويقول خليل الذي كان مهووساً بتربية ثلاثين فأراً في بيته, ان النبر اكرمه بعد عودته بان اعطاه طعاماً تكفي الفئران لمدة عدة اشهر. ولم يصل « الفرهود « الى اي من بيوت المسيحيين في السلط ممن توجهوا الى القدس يوم الفلة.لان كل عائلة من المقيمين قامت بحماية جيرانهم من الظاعنين. فعادوا ليجدوا ان لم ينقص عليهم خيط او ابرة اثناء غيابهم كما قال ذلك عواد المنور.

وعندما وصلت قوافل المهاجرين من اللد والرملة الى السلط عام 1948 , وكانت المدينة اول مستقر لهم بعد عبورهم جسر اللنبي, قابلهم المرحوم الاستاذ عبد الحافظ العزب واسكن المجموعة الاولى في الغرف الدراسية لمدرسة السلط الثانوية, ولكن بقيت مجموعات بدون مأوى, فتبرع الاب فرانشيسكو فاتوريللو باستضافة المجموعة الثانية في دير اللاتين, حيث اقاموا مسيحيين ومسلمين, وتوزع الباقون بين المسجد الصغير والمسجد الكبير وكنيسة الاورثوذوكس.

وقد قامت الاحزاب السياسية في تقوية نسيج التاخي الديني بين ابناء السلط فانصهروا جميعاً في بوتقة واحدة, حيث كان الدكتور إميل لطفي مفوضاً عاماً للحزب القومي الاجتماعي» القوميون السوريون», وكان الاستاذ ابراهيم العايد ممثلاُ لحزب البعث العربي الاشتراكي , وكان الدكتور خالد حمشاوي رئيساً لفرع السلط للحزب الشيوعي الاردني, وكانت كوادر هذه الاحزاب كلها من ابناء المدينة , يتشاركون مهمات الاخاء الحزبي والنضال المشترك.

فالتآخي الديني سمةٌ من مزايا شعبنا, الذي حرص على ان يحافظ على نسيجٍ من الترابط والتآصر والتلاحم بين جميع مكوناته, لا في السلط واربد والكرك فقط, بل في جميع مدنه وقراه وبواديه.



عدد المشاهدات : (3879)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :