الصيام حكم وأحكام


رم - من رحمة الله تعالى بعباده، ولعلمه القديم بحاجتهم إلى الصيام، ولأن بعضنا قد لا يصوم إلا قليلاً، فقد شرع لنا عبادة الصيام في شهر مخصوص وفرض علينا الصيام كما فرضه على الأمم من قبلنا.
فيأتي شهر رمضان مرة في العام، وهو الشهر التاسع وفق تسلسل الشهور العربية الهجرية، وفي هذا الشهر من الخيرات والبركات والأسرار ما لا يعلمه إلا الله، وقد يمنح بفضله بعض عباده نفحات من روائع ومنح هذا الشهر.
ولكي تتعود الأمة على الانضباط، وتدير حياتها وفق منهج صحيح ودقيق فرض الله تعالى علينا هذا الشهر المخصوص، كذلك؛
فإن الأمة مطالبة بتعظيم هذا الشهر، وتحريه والسعي لاستقباله، وانتظاره كما يُنتظر الحبيب القادم بعد مدة غياب، فيترقب المسلمون كل عام، قدوم هذا الشهر الحبيب، ويحصل لذلك من الهيبة والفرح والحالة الإيمانية في الأمة، ما يجعلها تشتاق إلى الشهر، لعلها تقدره قدره، ولعلها تتنبه لعظمته، إنه رمضان الذي يمنحه الله لعباده كدورة ربانية إيمانية، يتخلصون فيها من العناء النفسي والثقل الصحي، ويعطون من عمرهم ووقتهم أكثر لله.
وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، رواه البخاري، فهذه الأمة لها ارتباط بالظواهر الكونية، ويوجّه المسلم ليتفكر في الكون وما فيه، وليستشعر أن كل ما في هذه الدنيا من مخلوقات تتشارك معه في التوحيد والعبودية لله، ويستشعر فيض رحمة الله تعالى بأن سخر هذا الكون الفسيح، هذه السماوات.. هذه الأرض.. هذه الكواكب والنجوم والرياح والمخلوقات.. كلها مسخرة لك أيها الإنسان؛ تنفعك تسعدك ترشدك.. تعينك على الصلة بالله يا عبد الله.
فتفكر في هذا ملياً.. ولا تستوحش في عتمة الفضاء والسكون الكوني، فكل ما تراه وما لا تراه (وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم..) كل شيء يسبح بحمد الله، وكل شيء يقر بالعبودية له.
توقيت دقيق، وارتقاء بهذا المخلوق، ليكون في حالة من السمو والارتقاء تؤهله للعبودية لله، فمواقيت الصلاة انضباط ودقة، ومعرفة الشهور انضباط ودقة، وبداية رمضان ونهايته، وبداية ذي الحجة وعرفات والأعياد، كلها تعلمنا أن ننضبط بساعة الكون الربانية، فنلمح ألطاف الله تعالى وهي تمدنا بالرحمة، ونستشعر فيض كرمه بتدبير الكون بحكمة معجزة.
هل تفكرت أيها الصائم بأحكام الوقت في رمضان، هل سألت نفسك ما الحكمة بضرورة الانضباط بالوقت لمن يريد أن يأكل أو يشرب قريباً من أذان المغرب أو الفجر، وأن من أكل أو شرب مخطئاً وهو يظن عدم دخول الوقت فجراً، أو دخوله مغرباً فرحمة الله تعالى بأنه لا يؤاخذه لأنه أخطأ "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، "فلو أكل الإنسان وهو يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طالع فصيامه صحيح؛ لأنه لم يعلم أن الفجر قد طلع"، كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
الوقت له أهمية في شرعنا وعباداتنا، وقد أقسم الله تعالى بأوقات عدة مثل (الفجر، والضحى، والعصر، والليل، والنهار) فعليك أيها المسلم أن تعرف بأن من حكم الصيام تعلم احترام الوقت، والانضباط به، وأن يكون الإنسان دوماً متنبهاً لخطورة فوات الوقت، واقتراب الساعة (يسألونك عن الساعة، قل إنما علمها عند ربي).
قال الحسن البصري "يا ابن آدم إنما أنت أيام فإن ذهب يوم ذهب بعضك"، فتعلم أن تستفيد من الوقت، ولا تضيع أيام الصيام وبالأخص في شهر رمضان، فهو ما إن يبدأ حتى يأذن بالرحيل.
وجاء الإسلام نورا وهدى للناس، يهديه سبيل الخير في الدنيا والآخرة، ويدفع عنهم شرور هذه الحياة وعذاب الآخرة، وقد تضمنت تشريعات الإسلام كل شيء من العقائد التي تتمثل في الإيمان والشرك والردة والكفر، ومن التشريعات الفقهية والمعاملات والفرائض التي تمثل هوية المسلم وشكلها.
ولمّا جاء الإسلام لم يأتِ بكل العقائد والتشريعات مرة واحدة؛ لأنّه جاء لعصرٍ انتشرت فيه براثن الأصنام والشرك بكل أشكاله، فأخذ الإسلام في أحكامه تدرجا واضحا، وأبعادا زمنية حكيمة لكل تشريع كان ينزل على المسلمين آنذاك؛ وذلك لأنّ لكل فترة في حياتهم خصوصية تختلف عن غيرها، ومنها ما ينطبق على حديثي الإسلام في عصرنا هذا، فلا نُشِقّ عليهم بالمهام الدينية والطاعات منذ إعلان الشهادتين؛ لأنّ طبيعة الإسلام هي اليسر وليس العسر.
وهو مبدأ فطري إنساني، فالإنسان طبعه التعوّد، ويتعود على الشيء بالتدرج فيه، يبدأ بشيء صغيرٍ حتّى إذا ما أتقنه ينتقل لشيء أكبر منه وهكذا، وعلى هذا المبدأ قامت تشريعات الإسلام المختلفة.
وهذا ما حدث عندما نزلت فريضة الصيام على المسلمين، فقد فرض الصيام بعد خمس عشرة سنة أو أكثر من بعثة الرسول عليه الصلاة السلام، أي في شعبان من السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة بالمدينة المنورة، يعني بعد خمسة عشرعاما ممن نطقوا بالشهادة من أوائل المسلمين، لحكمة أرادها الله بتدرج التكاليف رحمة بالناس وتحبيباً لهم.
الصيام له فضل عظيم، فهو لله كما جاء في صحيح البخاري (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام لا عدل له) النسائي.
فهو برهان صدق العبد مع ربه، واستسلامه بترك كل ما يحب لأجل مولاه وخالقه وإلهه، وهو رغبة بالتخلي عن حاجاتك لمرضاة ربك، فأنت تقدم ما يحب على ما تحب، فيفيض عليك بالعطاء والرحمة والخير، ويعدك بفرحتين "للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه"، بل إن رب العزة سبحانه الذي خلق هذا العبد وأعطاه جسده وصوره كيفما يشاء، يعلم أن خلو جوفه من الطعام يؤدي إلى خروج رائحة خلوف فمه، فيبلغ درجة رضاه عنه بصومه ودرجة تكريمه له ومحبته إياه، أن يكون "خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
فيا الله ما أعظم هذه العبادة وما أحسن شرعها، من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا، فهو يريد منك أن تخلص له العبادة، ويعدك عليها رحمة وفضلاً ومنحة ووقاية.



عدد المشاهدات : (1465)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :