بدران: كان الحسين يجتمع بنا في المخابرات دوريا ويستمع للرأي الآخر


رم - يستكمل رئيس الوزراء الأسبق، ومدير المخابرات الأسبق، مضر بدران، اليوم، حديث الذكريات السياسية، ويجيب عن تساؤلات تاريخية.

واليوم، في الحلقة السابعة من حلقات "سياسي يتذكر" مع "الغد"، يؤكد بدران بأنه تعرض لوشاية أثناء عمله مشاورا عدليا في القوات المسلحة (الجيش العربي).

ويشير بدران إلى أن دعوته إلى اللجوء السياسي لدمشق، كانت بهدف إلحاق السمعة السيئة بالأردن، لأن حركة اللجوء السياسي من الجيش كانت نشطة، بعد هروب قيادات من الجيش العربي، وطلبها اللجوء السياسي لسورية أو العراق أو مصر.
ويكشف بدران اليوم بأنه التقى الراحل الحسين لأول مرة ودار حوار بينهما، عندما كان يعمل في المخابرات العامة بمهمة مساعد مدير المخابرات.
ويؤكد بأن الراحل الحسين كان يزور المخابرات، ويطلب الضباط للاجتماع معه، فقد كان رحمه الله يأتي ليلا، ويستدعي بدران وأديب طهبوب وأحمد عبيدات وطارق علاء الدين وعدنان ابو عودة، للحوار، مستمعا للرأي الآخر حتى وإن اختلف معه، وكان يتناقش، ويقتنع أحيانا، ويقنع بوجهة نظره أحيانا أخرى.
ويشير بدران إلى أن تكليفه برئاسة دائرة المخابرات العامة كان بعد استدعائه إلى الديوان الملكي، لمقابلة الراحل الحسين رحمه الله، في مكتب وحضور قائد الجيش في حينها عامر الخماش العام 1968.
حيث كشف له الراحل الحسين بأن محمد رسول الكيلاني تعب، وطلب أن يقدم استقالته، وكلفه الحسين بإدارة المخابرات، واستلامه مكان ابو رسول.
ويجدد بدران اليوم التأكيد على موقفه الداعم، لعمل المنظمات الفلسطينية المسلح، داخل الضفة الغربية، وضد عملها أو حتى تواجدها في الضفة الشرقية.
وعن رأيه في أبو عمار يوضح بدران بأنه دعا عرفات في أكثر من مناسبة، لتوجيه الفصائل للضفة الغربية، وليس لعمان، وأن ابو عمار ظل يردد بأنه لا يستطيع التحكم بالمنظمات، لأنها ميلشيات وليست جيشا، وهو ما لم يعجب بدران حينها.

وفيما يلي نص الحلقة السابعة
*كنا توقفنا عند لقائك الأول بالراحل الحسين، وقد أسهبت في شرحك عن موضوع حماية النظام أمنيا، فهل كانت مهمتك في الجيش لها طابع أمني؟
-قلت لك؛ في تلك المرحلة كنت مشاورا عدليا للأحكام، وأخذت على عاتقي أن أنصف في كل قضية أتعامل بها، وكان الأردن في تلك المرحلة يتعرض لمحاولات مستمرة للانقلاب العسكري على الملكية، وكنا مهددين في كل لحظة.
قد لا أكون مطالبا بحماية النظام من موقعي، لكن هذه مسؤوليتي الوطنية، وما تعاملي مع القضايا وإنصاف الموقوفين بالسجون إلا إحدى الوسائل التي اجتهدت بتوظيفها لخدمة النظام الملكي، وتثبيت صورته، بأنه نظام عادل لا يظلم أحدا، لكنه يحاسب المخطئ.
من موقعي تعرضت لوشاية، كان من شأنها أن تلحق سمعة سيئة بنا، عبر حديث عن هروب قيادات من الجيش العربي، وطلبها اللجوء السياسي لسورية أو العراق أو مصر.
في أحد الأيام، دخل عليّ المسؤول عني في قسم المشاور العدلي، وهو اسامة السخن، وقال بأنه قرأ اسمي مع شخصين آخرين، على مكتب حابس باشا، ومطلوب اعتقالنا الثلاثة.
فقلت له: ليش؟
فقال: ما في ليش، الحكم يصدر غيابيا.
فقلت: على الله.
فقال: الأفضل أن تلجأ لسورية، وأنا انصحك بذلك.
في تلك الأيام، كانت خطيبتي تدرس في دمشق، وكان ذلك المسؤول العسكري، الذي عرض علي اللجوء الى سورية، قد ابلغني بأن اللجوء إلى سورية سيضمن لي الإقامة في شقة مفروشة، وبراتب محترم، وهو عرض أتى به قائد الكتيبة الأولى، التي مهمتها حراسة القصر، وهي الكتيبة التي كانت تقوم مقام الحرس الملكي قبل تأسيسه.
بعدها، عدت إلى البيت وبدأت أفكر بالأمر، وهل فعلا علي اللجوء لبلد غير بلدي، وأنا لم أقم بأي شيء يستدعي ذلك، فلم أقصر في واجباتي، ولم أكن مخالفا للقانون، بأي إجراء قمت به.
في اليوم التالي، استيقظت، ووضعت في حقيبة العمل، التي أحملها معي في كل يوم، "بيجامة وعدة الحلاقة وحفاية وغيارا داخليا"، وذهبت للعمل، ومعي كل مستلزمات الاعتقال والتوقيف.
دخلت مكتبي، وإذ بالمشاور العدلي المسؤول قد فوجئ وصدم، وقال: شو صار معك؟ فقلت: ها أنا أحمل عدة المعتقل، وأنا جاهز للاعتقال والتحقيق، "واللي بده يصير يصير".
وقلت له: أنا محقق ولا أقفز عن دوري، ولا أسعى لممارسة اللعب على الحبال، فقال: أنت حر، وأنا نصحتك لأنك رجل مستقيم، فأعدت عليه التأكيد بأني باق في مكتبي.
بعد مدة طويلة، رويت الحادثة للراحل الحسين، وقلت له قبل استقالتي من الحكومة الثانية، بأن العرض، الذي جاءني في ذلك الزمن كان مغريا، فخطيبتي في دمشق، وزواجي بها وإقامتي في شقة فارهة، وراتب يزيد على راتب المدرس الجامعي، كانت مغريات من شأنها أن تحدث منافذ لانهيار الجيش، حتى في أصغر المواقع، ومع ذلك بقيت في بلدي، وحملت حقيبتي مستعدا للتوقيف والاعتقال في سجون القيادة العامة للقوات المسلحة.
لكني تابعت بالقول للراحل الحسين، أما إذا سلمت البلد لفاسدين، فإني سأترك الأردن، وسألجأ لبلد ثان، لأني لا أحب أن أرى بلدي ينهار، لأن الفساد سيتسبب في إسقاط النظام، وقلت: ها أنا استأذنك سيدي، لأنني بعد الفساد لن استأذنك المغادرة.
قلت للحسين هذا الكلام، بعد أن استنزفت منا مكافحة الفساد في الحكومة الثانية وقتا طويلا، حتى صرنا نتابع أصغر قضايا الرشوة، ونحاسب من يقترف هذا الجرم.
وقبلت تحدي الكثيرين، بأني سأفشل في وقف الفساد، ومضيت في عملي لأكثر من ثلاث سنوات، حتى جاءني أحد الوزراء، وقال أن صديقا له، رجل أعمال زاره، وقال له بأنه في كل عام كان يدفع رشوة لمسؤولين، حتى يسرعوا في معاملاته، حتى دخل مكتب أحدهم مؤخرا، فعرض عليه مبدأ الرشوة، فقال: مادام مضر بدران على كرسيه في رئاسة الحكومة إياك أن تعيد ما قلته.
كما ذكرت الراحل الحسين بما قاله في الاجتماع الأول، الذي رأيته فيه، وقال عن الوجوه الجديدة، التي ستحل مكان الوجوه التقليدية، وقلت له بأن هذا التغيير لوصفي، بعد اقل من سنة وثلاثة أشهر لن يأتي بالاستقرار للبلاد، وأنه بتغييره المتكرر لرؤساء الحكومات لن يصنع استراتيجيات الخدمة العامة، على أسس المحاسبة والمتابعة والمكافأة أيضا.
*سأعود للحديث عن لقائك الأول بالملك الحسين، متى صار الحسين يعرفك، ومتى اشتبكت معه في الحوار الأول؟
-عندما كنت مساعدا لمدير المخابرات، كان الراحل الحسين يزورنا في مقر دائرة المخابرات العامة، وكان يطلبنا كضباط للاجتماع معه، فقد كان رحمه الله يزورنا ليلا، ويناديني أنا وأديب طهبوب وأحمد عبيدات وطارق
علاء الدين وعدنان ابوعودة، ونجلس في مكتب محمد رسول الكيلاني بحضوره.
كان رحمه الله يشجعنا على الحديث، وكنا في بداية الأمر متحفظين، خصوصا وأننا نتحدث أمام الملك، لكن وأمام إصراره علينا في معرفة وجهات نظرنا من المعلومات التي بين يدينا، صرنا أكثر تحررا في الكلام.
كان رحمه الله يحب أن يستمع للرأي الآخر حتى وإن اختلف معه، وكان يتناقش معنا، ويقتنع بما نقول أحيانا، ويقنعنا بوجهة نظره أحيانا أخرى.
وصارت علاقتنا بالحسين تقوى أكثر، فكان رحمه الله يجلس معنا حتى منتصف الليل، ونحضر العشاء، ويتناوله معنا أثناء الحوار.
وكان الحسين دقيقا، في طرح اسئلته، ويريد أن يعرف أدق الاختصاصات في الملفات، التي يحملها كل منا، وهو ما حفزنا لنوسع نطاق اهتمامنا بشؤون البلد كافة، فصرنا نبحث في كل شيء، قد يباغتنا في السؤال عنه.
وفي يوم من الأيام، استقال محمد رسول الكيلاني من دون أن يَشعر أحد منا، فطلبني الديوان الملكي للقاء جلالة الملك، ذهبت مسرعا، ودخلت على الملك رحمه الله، في مكتب كان يجلس عليه معه، قائد الجيش في حينها عامر الخماش.
وبدأ حديثه معي، بأن محمد رسول الكيلاني تعب، وطلب أن يقدم استقالته. وكلفني الحسين بإدارة المخابرات، واستلام مكان ابو رسول.
فقلت للحسين: أنا استلم مكان ابو رسول ليش؟ إن أردت سأذهب إليه وأقنعه بالبقاء.
تفاجأ الراحل الحسين والخماش، ثم تابعت بالقول: إن موقع المدير صار موقعا سياسيا، وأن ابو رسول، لا يجلس في الدائرة بالمقدار الذي يجلس فيه مع رئيس الحكومة أو الملك، ثم يا سيدي، أنت لا تعرفني لكي تكلفني بهذه المهمة.
هنا تدخل عامر باشا وقال: سيدنا بيعرفك جيدا.
كنت وقتها، ما زلت تحت هاجس أن أستقيل، وأفتح مكتبا للمحاماة، بعد خبرتي الممتعة في مجال المشاور العدلي في قصر العدل.
ثم مباشرة، قلت بيني وبين نفسي: لماذا لا أقبل المهمة، ولماذا لا استكمل مسار بناء وتأسيس دائرة المخابرات العامة، فوافقت في نهاية المطاف.
مباشرة، ولدى دخولي الدائرة مديرا، بدأت بتغيير أمور أساسية في عمل الجهاز، وهي مجالات لقيت صدى طيبا، عند الزملاء الضباط.
وقد تحدثت إليك عن بعض مجالات التطوير، التي خضنا فيها بمهمات شاقة، خصوصا وأنني تسلمت الجهاز بعد حرب العام 1967.
ولم يكن لذلك أي حساسية بين الزملاء، بل على العكس، كانوا معي خطوة بخطوة، في الانجاز، ولهم فضل كبير في وصول الجهاز لإمكاناته الفنية والحرفية في التحقيق وتقصي المعلومات وتحليلها.
ثم بدأت اهتم اهتماما خاصا بشؤون الضباط، لأنهم معرضون للخطر، ومهماتهم فيها مجازفة ليست بالسهلة، وقد حملوا أرواحهم على كفوفهم، وقلت لك بعض تلك المواقف التي تعرض فيها الضباط لخطر كبير.
كان معنا في الدائرة، ضابط أكبر منا بالعمر، لكننا سبقناه بالرتبة العسكرية، وكان المقدم حسني حسن، وهو لم يتذمر من أننا أصغر منه بالعمر، ونحن نتقدم عليه بالمسؤوليات، وكان هذا الرجل رياضيا محترفا، وكان حارس المرمى للمنتخب الوطني، وواجهنا في احدى المباريات المنتخب المصري، وكان شرسا في الدفاع عن المرمى، لدرجة أنه أفشل كل محاولات المصريين في التسديد.
وفي احد أيام الشتاء، وقد أثلجت في عمان، وإذ بحسن يقع على الأرض، وأدخلناه المستشفى، وإذ به مصاب بفشل كلوي.
مباشرة، سألت عن أقرب مستشفى لغسل الكلى، فقالوا: مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، فقلت: يذهب هناك ويتعالج، وصرنا نخصص له، رحلتين في الأسبوع، ذهابا وإيابا للمستشفى، ليغسل الكلى في بيروت.
ثم فكرت كيف لي أن أريحه من عناء السفر، ففكرت في شراء جهاز غسيل الكلى في عمان، وذلك لعلاج المشكلة بشكل جذري.
ذهبت لوزير الصحة، وكان وقتها الدكتور عبد السلام باشا المجالي، وشرحت له وضع حسني حسن، وأن علينا شراء جهاز غسل الكلى، فيستفيد منه حسني حسن، ومرضى آخرون، ويكون اكبر ابناء حسن قد تسنى له إنهاء تعليمه، والعمل، والقيام بالواجبات تجاه أسرته، فقال عبد السلام بأن الأمر مكلف، وقد لا نستطيع ذلك.
بعدها ذهبت بنفسي إلى المستشفى العسكري في ماركا، وكان الطبيب المسؤول عن الكلى هو الدكتور طارق السحيمات رحمه الله، فشرحت له وضع حسني حسن، فقال: يا ريت باستطاعتنا شراء جهاز غسل الكلى، وابلغته بأن الأولوية لحسني حسن، وفعلا هذا ما قمت به فورا، واشتريت الجهاز.
كان مدير المستشفى الدكتور داوود حنانيا، وجئنا بطبيب من لندن، ليدرب الأطباء في المستشفى العسكري على جهاز غسل الكلى، ولك أن تتخيل هذا الموقف، والأثر الذي تركه في نفوس الضباط، فقد شعروا باهتمام الدائرة بظروفهم، حتى لو تعرض أحدهم لأي مكروه.
في أحداث ايلول العام 1970، تم اصابتي في يدي خلال الأحداث، وعندما وصلت المستشفى العسكري، وجدت حسني حسن هناك، فقلت له ماذا تفعل هنا؟ فرد: أنا لا أستطيع أن أغادر فروحي هنا، وقد جاء المستشفى قبل الأحداث بيوم وبقي فيها.
هنا؛ وأمام واقع تداعيات حرب العام 1967، وما تبعها من احباطات، وتحريض المنظمات على إقلاق راحة الإسرائيليين، لم نلتفت كثيرا للساحة الداخلية، واكتفينا بالمتابعات اليومية، والاطمئنان بأن كل شيء تحت السيطرة، لكن تنامى إلى انتباهنا بأن حركة المنظمات داخل عمان، والمدن الرئيسية، تشي بأن هناك مواجهة محتملة، وبدأت نذرها تدق أجراس الخطر في العام 1969.
كما كانت لنا مصادر داخل المنظمات نفسها، تنقل لنا بعض المعلومات، التي بدأت بالفعل تسبب لنا مصادر قلق.
لكن ما كنا نحرص عليه فعلا؛ هو أن تكون الأولوية لفرع إسرائيل داخل المخابرات العامة، وتحصيل كل معلومة لها اتصال بحربنا مع العدو.
لكن، وأمام تواتر المعلومات عن الحراك داخل المنظمات، بدأت أقتنع بأن الصدام قادم لا محالة، فالمؤشرات كانت تقول وتؤكد الأمر.
كنا نسمع عن عمليات "تشليح" العسكر لبنادقهم أثناء اجازاتهم، وكيف أن من يأخذ سلاح العسكر، يخلع عن العسكري "البوريه"، فقد كان العسكري يأخذ اجازته ويحمل بندقيته استعدادا لأي خطر.
البلد لم تعد آمنة، والسبب إطلاق النار المتكرر، والقتل المستمر، وكان لا بد أن تقع الواقعة وحدث ما حدث.
*وماذا عن علاقاتك بياسر عرفات وقتها، وهل كان لأبي عمار دور في أحداث أيلول، وهنا أقصد بالدور، سلبيا كان أو إيجابيا؟
-أيام عملي في المخابرات، والطريقة التي تعاملنا فيها مع الفدائيين، هناك تفاصيل كثيرة، قد لا أكون مع طرحها الآن، لأن لا قيمة تاريخية لها، لا الآن ولا لاحقا، ولا أقول ذلك من باب التهرب من الاعتراف التاريخي، لكن فعلا لا لزوم لتلك التفاصيل.
أنا كنت مع عمل المنظمات المسلح، داخل الضفة الغربية، وضد عملها أو حتى تواجدها في الضفة الشرقية.
وكنت أتحدث لأبي عمار كثيرا، وأقول وجهوا جماعاتكم هناك، وليس هنا، فهنا لا عدو لكم، العدو في الضفة الغربية، وظل يمسك بقوله، بأنه لا يستطيع التحكم بالمنظمات، لأنها ميلشيات وليست جيشا، ولم اقتنع بكلامه، ولم يكن يعجبني أصلا هذا الطرح.
وفي مرة أخرى، قلت له إن عليه ضبط حركة السلاح الداخل إلى عمان، فنفى الأمر، وقال لا سلاح ننقله عندكم، فقلت: "لكن جنازاتكم كثرانة"، فقد كانوا ينقلون السلاح بالتوابيت، وكنا نعلم بالأمر، وحاولنا غض الطرف بذريعة تجنيد الفدائيين، قبل ذهابهم للضفة الغربية، لكن اللعبة كانت مكشوفة بالنسبة لنا.
وحذرته مرة وجها لوجه، وقلت إنكم تخططون لمواجهة مع الجيش، وهذا أمر لا حيلة لكم به، فالجيش منظم، وانتم لستم منظمين، فاعدت عليه حجته في موقع آخر في زمن متقدم، لأننا فعلا لا نريد مواجهة مع الفدائيين، والراحل الملك الحسين لم يكن ليقبل بذلك، لولا تفاقم الأمور، وتزايد الاحداث المستفزة، لكن ابا عمار رفض النصيحة.
في مرة أخرى، تعاونا في تهريب 22 فدائيا عن طريق الأغوار، ليصلوا القدس، وينفذوا عمليات ضد الإسرائيليين، فألقي القبض على 21 فدائيا منهم، وفر شخص واحد فقط، وبعد التحقيق معهم، اعترفوا جميعا بأن المخابرات الأردنية هي من سهلت لهم تلك العملية، عبر الحدود، ولك أن تتخيل حجم الضغط الذي واجهناه مقابل ذلك، فالأميركان والإنجليز كلهم بدأوا يلومون المخابرات، وكله كان يصل للراحل الحسين، وكان يتحمل تلك الضغوط من دون حتى أن يلفت نظرنا لذلك، لكننا كنا نعلم جيدا بالأمر، إن أن الاعتراف بطريقة التسلل داخل فلسطين، فيه كشف لطريقة تهريبنا للفدائيين أصلا، ما يعني ضرورة تغيير خططنا من جديد، وفعلا قلت لأبي عمار بأن هذا مرفوض، وعليكم أن تتماسكوا أمام المحقق الإسرائيلي، وقلتها من غيظي، لأني شعرت بأن العملية بهذه الطريقة، واعتراف الـ21 فدائيا، هو عمل مقصود ضدنا نحن.
لقد أدرك الفدائيون بأن الحكم العسكري هو مقدمة لأمر ما، وهذا الأمر هو تجاه الفدائيين، وليس تجاه أي مجموعات أخرى، وأذكر جيدا بأن أحد القيادات الفتحاوية، اعترف لي بعد الأحداث بوقت طويل، بأننا سبقنا الفدائيين في انتشار الجيش في عمان، فقد انتشر الجيش في عمان فجر يوم الخميس، فيما كان الفدائيون يخططون لاحتلال عمان صباح يوم السبت، وكان في ظنهم بأن الجيش حركته ستكون ثقيلة، بينما مسلحوهم حركتهم أخف من حركة الجيش ومعداته، طبعا تقديرهم خطأ، لأن الجيش كان قد أعلن مبكرا حالة الاستنفار، وهي الحالة التي يكون فيها الجيش جاهزا للحركة بشكل مباشر وسريع.
حتى على سبيل محاولات التعامل مع سحب فتيل أزمة متوقعة، سعينا لتشكيل لجنة مشتركة منا ومن المنظمات، بهدف كشف المواقع ومحاولة التعامل مع أي خطأ من قبل أي طرف، وذلك على سبيل الحلول الوقائية، كنت أنا عن الجانب الأردني، وكان ياسر
عبد ربه عن الجانب الفلسطيني، في احدى المرات جاءنا خبر عن استحكامات للفدائيين في فندق مقابل قصر العدل، فخرجت أنا وعبد ربه للكشف على الموقع، فدخلنا ولم نجد أحدا في الفندق، وطلب عبد ربه مني أن نغادر، فقلت: لا يجب أن نصعد لسطح الفندق، فتحت الباب وإذ بالفدائيين ينامون على السطح، مع اسلحتهم.
حاولنا بكل السبل أن لا يكون هناك مواجهة ففشلنا.
في احدى المرات، طلب مني نذير رشيد دعوة كمال جنبلاط لعمان، واستغربت طلب رشيد، لكني قمت بذلك، وكان جنبلاط نائبا في البرلمان اللبناني، ولم يكن وزيرا للداخلية بعد.
لبى جنبلاط الزيارة، وتكفل رشيد بإطلاعه على كافة مواقع الاستحكامات للفدائيين، وانتشارهم في المدن، وحركتهم المرنة، أمضى جنبلاط نحو 3 أيام، وبعد أن جاء لزيارتي في المكتب أبلغني بأننا سنكون على موعد مع مواجهة الفدائيين، وتنبأ بالأمر، وقلت بأن عندي ذات الانطباع، ذهبنا بعدها لزيارة الحسين، وكان عاتبا على جنبلاط، ومن حصافة جنبلاط قال له: يا جلالة الملك، دعاني مدير مخابراتك، وقبلت الدعوة، أفلا أقبل دعوتك وأنا رجل سياسي.
فشلت كل محاولاتنا، لكننا كنا نخشى بحق أن تقع الواقعة، وأن يكون هناك تدخل خارجي، وهذا ما جعلنا نضع أيدينا على قلوبنا.
وفعلا حدث ذلك، والجيش السوري وصل إربد، وخفنا من اسرائيل، لكن الملك ضغط على الولايات المتحدة، لتبقى اسرائيل على الحياد، كانت الأمور في غاية التعقيد، والمهمة لم تكن سهلة، وكان عملنا في التقارير الأمنية يوثق حجم وأبعاد الأزمة.
أذكر أن قائد أحد الألوية، التي دخلت منطقة الوحدات، قال لي بعد انتهاء الأحداث، وكان تيسير الديري، وكان قائد لواء الأميرة عالية، بأنه لو كان قرأ تقاريري الأمنية لما دخل الوحدات، لأن جبهة من النار، فتحت فوق رأسه وعناصر كتائبه، ولا يعلم من أين تنطلق النيران، وكان هو قائد اللواء، الذي أطلق سراح رهائن الطائرات، التي اختطفت وتم تفجيرها، وكان الرهائن مروا بحراسات الفدائيين من قلب عمان، وصولا للوحدات، وقد اساءت تلك العملية لنا كثيرا أمام المجتمع الدولي، إذ بينت حجم الرخاوة الأمنية للنظام السياسي في المملكة، وهي النقطة التي بدأنا منها وبعدها بالتفكير بإنهاء الوجود المسلح للفدائيين في عمان.
الغد




عدد المشاهدات : (6120)

تعليقات القراء

هرمنا
فكونا
01-02-2015 12:03 PM
huda
هذا الكلام لا يطعم خبزا فالاهم ماذا فعلتم للبلد واقتصاد البلد اذ اجبرتم مئات الالوف من خيرة ابناء البلد والكفاءات على الهجرة طلبا للرزق بسبب سوء ادارتكم الملف الاقتصادي وانا واحد منهم والان قررت الهجرة الدائمة للولايات المتحدة حتى انقذ اولادي من براثن الفقر والبطالة
01-02-2015 08:50 AM

أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :