الهواية: المطالعة


رم -
احمد حسن الزعبي


كنت في زيارة خاطفة إلى صديق يملك «كشكاً» صغيراً للكتب وسط اربد، أحب أجواء الفوضى هناك، الصحف القديمة المكدّسة، الورق المطل من الدوريات، اختيار الجلوس في مكان ضيق على كرسي «بلاستيك» صغير، أثني ركبتي تحت الطاولة، وأضطر كل دقيقتين لإزاحة المقعد بزاوية 60 ليتسنى لصاحب المحل البيع وترجيع الباقي إلى الزبائن العابرين، رائحة الورق المعتّق فوق الرفوف، والعناوين المخمّرة بالعتمة والرطوبة والقدم، تشعل المكان وتمنحه قدسية وتميّزاً كدور العبادة.. يدير صاحبي قرص الهاتف الأرضي طالباً من المقهى القريب فنجان سادة.. فتأتني بعد دقائق القهوة المغلية وكوب ماء على صينية معدنية صغيرة.
فوق رأسي كتب الطبخ، وعلى يميني كتب فك السحر و100 سؤال وجواب عن ليلة الدخلة، وفي الرفوف الفوقية بعض الأعمال المترجمة والروايات العالمية، وعلى اليسار هناك مجلّدات تفسير الطبري وابن كثير، والسيرة النبوية، وسيرة ابن هشام، وغيرها من الكتب المطلوبة على مدار العام.. رشفت فنجاني وكنت أطأطئ رأسي محاولاً عد أعقاب السجائر المطفأة على باب المحل وفي البلاطات الأولى من الرصيف لأعاتب صاحب الكشك «الفوضوي».. عندها أحسست بظل رأس بين قدمي.. رفعت رأسي فجأة لأرى صاحب الظل، قال مالك الكشك مرحّباً بالزبون.. تفضل! فردّ الزبون بشيء من التردد.. في عندك مجلات؟ أشار البائع إلى الأعداد المتوفرة على مشبك العرض.. كان الزبون يرتدي بدلة غريبة تشبه ما كان يرتديه أبطال السينما في سبعينات القرن الماضي..
بنطلون بحجلتين واسعتين، وخصر ضيق وجاكيت له ياقة عريضة، وفوق ذلك، مازال الزبون يحافظ على سالفي شعر مثل كعب المسدس ونظارة سميكة تشبه نظارة سيّد مكاوي.. قلّب الرجل المجلات الموجودة.. ثم سأل صاحب الكشك: «فيه غيرهم»؟.. مثل ماذا؟.. هل هناك مجلة في بالك..!! سأله صديقي حسين.. تلكأ الزبون قليلاً وقال: أبحث عن مجلة فيها صفحة تعارف!.. ضحك البائع وقال: صفحة تعارف! المجلات برمتها ستختفي بعد حين وأنت تبحث عن صفحة تعارف!.. الفيسبوك خلّى فيها تعارف يا عمي؟!.
للحظة أحسست أن الرجل صاحب البدلة «الشارلستون» قد نام على الأقل ثلاثين سنة متواصلة واستيقظ للتو ونزل للسوق.. ياه.. صفحة تعارف! الآن؟.. تعارف: عندما كان سكان الوطن العربي 100 مليون.. ونصف المطبوعات العربية تحمل شعار القدس أو خارطة الوطن العربي.. ياااه.. صفحة تعارف! عندما كانت رسائل الحب ملونة وعليها غصن ورد أسفل الصفحة.. عندما كان كل شباب المشرق العربي لا يجدون ما يكتبون فيه على أوراق المراسلة سوى: الهواية: المطالعة.. والمطرب المفضل: طلال مدّاح.. مع أنهم لا يطالعون إلا باكيت الدخان من الجيبة.. ولا يسمعون إلا صوت الرصاص أو صفير الريح في الخيم.. ياااه على التعارف: عندما كانوا يعطرون الرسالة بعطر «بروفيسي» أو «ون مان شو».. ثم يدسون صورة لهم وهم يضعون إصبع السبابة على الجبين والإبهام تحت الحنك بلحظة تفكر نادرة.. ويكتبون على مغلّف الرسالة تودداً لساعي البريد «وكل الشكر لموصلها».. ثم ينتظر المرسل شهرين على الأقل للحصول على الردّ من «نفيسة من المغرب».. أو «سعدية من تونس».. أو «عفاف من الشام».. أو «سعود من القصيم».. وغالباً لا يأتي..
***
في هذا الوطن العربي الممتد من الخصومة إلى الخصومة أعتقد أننا صرنا بحاجة إلى «صفحة تعارف سياسية» بعد أن غرّبتنا الخلافات.



عدد المشاهدات : (2398)

تعليقات القراء

رائد الصمادي - ابوظبي
مبدع كعادتك ورجعتنا الى ذكريات الوطن الجميله
20-12-2014 06:59 AM
ازهار محيسن
رغم انني لست من جيل صفحات التعارف الورقية و لكن قد يجبرني مللي الالكتروني ان اطالع هذه الصفحات في مكتبة والدي التي اصبح مكان هذه المجلات فيها الرف السفلي المهمل ، اضحك كثيراً لظرافة الصور احياناً، و احزن قليلا عندما ارى صورا لمواليد 1955 واكثر وقد غَالبَ الظن بموتهم الحياة و اقول متحدثة اليها ، اين انتم الان ؟!

لكن المميز الجميل في ذاك الزمن هو ان انتظار الرد يمنحه قيمة اكبر و ثمنية شاعرية لا تضاهى ، ولم تلحق به ملل السرعة و بعد اذن الله "كن فيكون " ، حتى تشوهت مخيلتي لدرجة لا استطيع ان اتصور بها ان احدهم كان يكتب على ورقة ويضعها في مغلف و يمشي بها الى البريد ونحن الان من شدة الملل نضطر ان نتجاهل ارتطام الحروف بنا احياناً ، وإن ارتطمت العيون ببعض فنقول : "اعذرني ، ما كنت فاضي ارد " !

شكرا لكم
19-12-2014 12:01 PM
الغلبان
ياه!!!!! الله عليكي يا الدنيا شو تغيرتي!!!!!!!!
18-12-2014 12:36 PM

أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :