روح رياضية


رم -

بقلم: م.أنس معابرة

من واقع حياتنا اليومية وما نشاهده من خلال تعاملنا مع الآخرين في العمل والأسواق وبين الجيران بل وحتى بين أبناء المنزل الواحد؛ نجد أن الكثير من هؤلاء الناس يمتلكون حساسية زائدة وقد يثيرون المشاكل لأسباب قد تكون تافهة أحياناً، والمدقق في حال المجتمع اليوم يقدر حجم الخلافات التي تنشب بين الناس، ولو سألت محامياً أو قاضياً أو زرت محكمة قريبة من مكان سكنك لوجدتها تغص بالمراجعين والمشتكين والمشتكى عليهم. فما هو السر وراء كل هذه المشاكل والقلاقل؟ وهل يوجد لها حل سحري يعمل على إنهاءها أو التقليل منها؟.
إن حقيقة الموضوع ترتبط إرتباطاَ مباشراَ ب"الروح الرياضية" التي ما عدنا نحس بها أو نستخدمها في تعاملاتنا، فقد يختلف الجيران بسبب موقف السيارة، وقد يفتعل أحدهم مشكلة كبيرة في العمل بسبب "نظرة" من أحدهم تجاهه، وقد تنشب معركة في أحد الأسواق بين البائعين بسبب "زبون دسم"، وقد يختلف إخوة فيما بينهم وتصل مشكلتهم الى القضاء بسبب ميراث، وقد تبدأ مشكلة واسعة بسبب "رنة هاتف" أو "زامور السيارة" وغيرها الكثير من الخلافات وأسبابها التافهة.
إن الروح الرياضية التي أدعو الى إعادة تفعيلها والعمل بها اليوم؛ هي تلك الروح التي نراها بين الرياضيين حين يتسبب أحدهم بسقوط الآخر أو إصابته ثم يعود اليه ويساعده على النهوض ويطمئن على إصابته، وهي نفس الروح التي تشعره بالسعادة لفوزه وبالحزن لخسارته دون أن يتسبب بالأذى أو الإحراج للخصم، ودون أن يشعره بشيء من الكره أو الحقد يدور في نفسه، وهي نفس الروح التي تجعله يحضن خصمه في نهاية المباراة ويبارك له على فوزه أو يواسيه على خسارته دون حسد أو شماتة.
ولكن النقطة الهامة في الموضوع أن الروح الرياضية لا تكون في الملاعب وحسب، بل نحتاج اليها في الكثير من مناحي الحياة اليومية، ويجب أن تكون رفيقتنا في تعاملاتنا وتجارتنا وقيادتنا وغيرها من النشاطات اليومية.
فيحتاج رب العمل الى روح رياضية عالية تجعله يتقبل النقد والملاحظة من عامله الذي يسعى الى تطوير بيئة العمل والنهوض بمستوى شركته، والذي يطالب بحقوقه عبر أسلوب شرعي وحضاري. وكذلك يحتاج العامل الى تلك الروح لكي تساعده على تقبل التوجيهات والأوامر من رب عمله وتجعله يملك قلباً متسامحاً يغفر زلات زملائه في العمل ويقدرهم ويحترمهم.
ويحتاج الجار الى الروح الرياضية في تعامله مع جيرانه خصوصاً في بيئة البنايات والإسكانات التي نعيش بها اليوم، تلك الروح التي تجعله يحس بجاره فيشاركه أفراحه وأتراحه ويتجنب إزعاجه بصوت مضخة الماء خاصته أو أصوات أبناءه ومذياعه وتلفازه. وتساعده تلك الروح على تقبل تجاوزات جاره غير المقصودة ويسامحه ويغفر له أو يناقشه بأسلوب حضاري.
ويحتاج الأب الى روح رياضية كبيرة في المنزل، تدفعه تلك الروح الى تقدير آراء زوجته وأولاده وتبعد عنه الإحتكار والتعصب لرأيه، وتجعله يعترف بخطئه أو قصور رؤيته أمام أفراد عائلته. ويحتاج بقية أفراد العائلة الى تلك الروح التي تجعلهم يمتلكون قلباً أبيضاً متسامحاً ودوداً سهلاً في التعامل.
ويعتبر الكاتب ممن هم بحاجة الى مقدار كبير من الروح الرياضية، تدفعه تلك الروح الى إطلاق العنان لقلمه ليشرع بالكتابة دون تقصير أو مغالاة، وتساعده تلك الروح في تقبل الإهانات والنقد ممن يتصفحون كتابته، وكذلك في ترجمة كلمات الإعجاب والتقدير التي يبادرونه بها الى مداد لقلمه وصبر لقلبه. ويلزم القارئ الكريم تلك الروح أيضاً لتساعده على فهم تلك الكلمات التي خطها كاتب بيده لينير له ظلمة الطريق ويساعده في تبديد طريق الجهل من أمامه، وتدفعه الى النقد البناء البعيد عن الشتم والتجريح والإهانة، بل وتساعده على تقدير كاتبه وإحترامه.
والمسؤول بحاجة ماسة الى تلك الروح الرياضية التي تدفعه الى القيام بواجبه على أكمل وجه دون تقصير، وتساعده في تقبل النقد والسخط من المراجعين والمشتكين، وتزوده بالصبر والحكمة في تعامله معهم وإقناعهم. ويحتاجها أيضاً ذلك المراجع الذي يجب أن يختلق الأعذار لتلك المؤسسة وتقدير حجم الضغط عليها وتدفعه تلك الروح الى تقدير زملاءه المراجعين ومراعاة ظروفهم وإحترام الأنظمة.
أما سائق السيارة فهو بحاجة ماسة الى تلك الروح الرياضية التي تدفعه الى إحترام القوانين والتعليمات والأنظمة والإلتزام بها، وتجعله متسامحاً في قيادته مع الآخرين ومقدراً لظروفهم وظروف مركباتهم، وتساعده تلك الروح على تجنب إيذاء الأخرين بصوت مذياعه المرتفع أو بوق سيارته المزعج إو أضواءه التي تؤذي عيون زملاءه، وتمنحه تلك الروح قلباً صابراً متحملاً لإولئك الرعاع الطائشين أصحاب القلوب الغائبة والضمائر الميتة والألسنة القذرة.
إن الروح الرياضية التي ندعو لها اليوم موجودة في تعاليم ديننا الحنيف تحت مسمى "التسامح"، وموجودة أيضا في موروث الآباء والأجداد تحت مسمى "طيبة القلب"، فالواجب علينا أن نبحث عنها بداخل أنفسنا وإن نعمل على تنميتها وتذكرها دائماَ في محاولة منا لإستيعاب الآخرين وتقدير ظروفهم والتقليل من المشاكل والخلافات.




عدد المشاهدات : (3208)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :